عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Aug-2019

كيف تقتل «السوشيال ميديا» الحقيقة؟ - د. ياسر عبد العزيز
 
الشرق الاوسط- عاش الفيلسوف والمنظر الثّقافي الفرنسي جان بودريار بين العامين 1929 و2007، ومع ذلك فقد استطاع أن يصف بيئتنا الاتصالية الرّاهنة بأدق وصف ممكن، حين قال: «في هذا العالم تزداد المعلومات أكثر فأكثر... بينما يصبح المعنى الحقيقي أقل فأقل».
خصص بودريار وقتاً كبيراً لإلقاء الضوء على أدوار التزييف والتشبيه والمحاكاة في سلب الواقع واقعيته، وبناء سياق مصطنع بديل، يعيش خلاله الناس مخدرين ومنومين... أسرى لاختلاقات تشبه الحقائق، لكنّها أبعد ما تكون عنها.
يقول الفيلسوف: «ستضحى التشبيهات في المجتمع المعولم أشدّ مصداقية من الواقع ذاته... ستكون واقعاً فائقاً؛ واستناداً إلى ذلك الواقع، الذي هو في حقيقته مفبرك ومصطنع، سيُشكّل الوعي والوجدان لقطاعات كبيرة من الجمهور».
لم يكن بودريار الباحث الوحيد الذي توقع هذه المآلات السوداء للواقع والحقيقة؛ فقد سبقه كثيرون؛ منهم الكاتب والصحافي والتر ليبمان، الذي رأى في عشرينات القرن الفائت أنّ ما انطوت عليه وسائل الإعلام التقليدية من «أكاذيب واختلاقات» آنذاك، كفيل بأن «يخلق عالماً زائفاً»، وانطلاقاً من هذا الاستخلاص، فقد ذهب إلى التشكيك في قدرة المواطن العادي على الحكم الذاتي العقلاني.
ستُلقي هذه المآلات المنحرفة للحالة المعلوماتية بأعباء كبيرة على قدرات الجمهور على فهم الواقع وتحليله تحليلاً صائباً، واتّخاذ القرارات الرّشيدة.
لكنّ القدرات الضخمة التي امتلكتها وسائل الإعلام التقليدية على مدى عقود طويلة، واستطاعت من خلالها أن تؤطر وعياً مصطنعاً في بعض الأحيان، وأن تدفع الجمهور إلى تبنّي خيارات محدّدة، وقبول سياسات معيّنة، ستكون اليوم مجرد بدايات خجولة إذا ما قورنت بالإبداع الخارق في مجالات الاصطناع والفبركة الذي نشهده ضمن تجليات «السوشيال ميديا».
في شهر مايو (أيار) الماضي، أعلنت «فيسبوك» إلغاء 265 حساباً مزيفاً مرتبطاً بإسرائيل، وهي حسابات استهدفت مستخدمين في جنوب شرقي آسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا، ونيجيريا، والسنغال، وتوغو، والنيجر، لكن ما كان لافتاً ضمن هذا الإعلان أنّ «فيسبوك» رصدت استهدافاً إسرائيلياً عبر هذه الحسابات للانتخابات التونسية.
يذكّرنا هذا بما كُشف عنه في إطار فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية التي أتت بالرئيس ترمب.
في شهر مايو الفائت نفسه، أعلنت «فيسبوك» أنّها حققت رقماً قياسياً في عدد الحسابات الزائفة التي أغلفتها خلال فترة ثلاثة شهور؛ إذ قالت: «أغلقنا 2.2 مليار حساب مزيف بين يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار) 2019».
من جانبي، لا أعتقد أنّ «فيسبوك» تقول الحقيقة فيما يختص بإجراءاتها الاحترازية وجهودها في مجال حماية حقوق المستخدمين، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ عدد المستخدمين النّشطين على شبكتها شهرياً لا يتجاوز 2.38 مليار مستخدم.
لكنّ هذا لا يمنع أن نفهم أنّ «فيسبوك» تقول للعالم إنّها أدركت خطورة تفشي هذه الظاهرة، وإنّها تحاول أن تبذل جهداً للتقليل من آثارها الضارة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الإفادات الموثوقة في هذا الصّدد تقول إنّ الشركة العملاقة التي تحقق أرباحاً فائقة لا تعتني كثيراً باتخاذ التدابير اللازمة لكي يكون عملها متسقاً مع القواعد والمعايير المرعيّة، خصوصاً فيما يتعلق بحماية الخصوصية والملكية الفكرية ومحاربة خطابات الكراهية.
في يوليو (تموز) 2018، أعلنت شركة «تويتر» أنّها أغلقت في شهرين نحو 70 مليون حساب وهمي؛ وهو الأمر الذي انعكس على تراجع كبير في عدد متابعي بعض الشخصيات المشهورة؛ إذ فقد الرئيس ترمب نحو 340 ألفاً من متابعيه. وبسبب وجود الحسابات المزيفة، فإنّ الفضاء الاتصالي الذي تنشط خلاله البشرية راهناً، أصبح «واقعاً فائقاً» بلغة بودريار، وهو واقع ينطوي على سمات ثلاث:
أولاً: حجم المنصات الزائفة والمصطنعة وتأثيرها ونفاذها يقارب حجم المنصات الحقيقية.
ثانياً: المنصات الزائفة والمصطنعة تتبع أفراداً ومؤسسات ودولاً، وجماعات مصالح، وتنظيمات إرهابية، ورجال أعمال.
ثالثاً: بسبب شيوع فكرة الاصطناع، فإن حجم المعلومات الحقيقية يتضاءل، في مقابل زيادة حادة وسريعة في حجم المعلومات المفبركة والمضللة.
لقد تحوّل الفضاء الاتصالي الرئيس الذي ننشط فيه جميعاً إذن، إلى ميدان تضاغط وصراع.
يتحول الدور المعلوماتي لمواقع «التواصل الاجتماعي» شيئاً فشيئاً إلى مجال للتلاعب والفبركة؛ وهو أمر يمكن التعامل معه باستخدام آليات وتدابير احترازية محكمة، للحد من آثاره الكارثية.
لكنّ الإشكال يكمن في أنّنا لا نثق بقدرة أو رغبة شركات التكنولوجيا العملاقة في الحد من هذا الأثر المدمر، كما أنّنا لا نثق بوجود إرادة لتحرير هذا المجال من نزعة التلاعب.
أمّا الإشكال الأخطر فيتعلق بأنّنا، لأسباب عديدة، أصبحنا مرتهَنين ومستلَبين للوظيفة الإخبارية لمواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ارتهان سيأخذنا إلى عالم مصطنَع وزائف، قال المؤرخ سيفا فيدياناثان، إنّه «سيُقوض الحقيقة والثقة والديمقراطية».