القدس العربي
عام 1986، فرضت فرنسا التأشيرة على القادمين إلى أراضيها، عقب سلسلة تفجيرات مست باريس وضواحيها. شمل القرار العديد من الدول، من بينها الجزائر، التي لم يعجبها الأمر ونوت الرد. توقع ملاحظون أن يأتي الرد سياسياً كذلك، لكن السلطة حينذاك خالفت التوقعات، وصبت غضبها على المدرسة، فقلصت ساعات تدريس اللغة الفرنسية، وبدل أن تدّرس الفرنسية في الصف الثالث صارت تدرس بدءاً من الصف الرابع. كما عزمت السلطة كذلك على غلق المدرسة الثانوية الفرنسية، ثم تراجعت عندما أدركت أن طلابها من أبناء الجزائريين.
هكذا هو الحال، كلما ساءت العلاقة بين الطرفين، تتحمل المدرسة تبعات الأمر. وخفض ساعات اللغة الفرنسية، لم تترتب عليه زيادة في ساعات اللغة العربية، التي ظلت تراوح مكانها. وعندما نتابع منحى القوانين التي سنّتها السلطة، منذ الاستقلال إلى غاية السنين القليلة الماضية، سوف نتفاجأ أن أكثر القوانين تعلقت بقطاع التعليم، وجلها عن اللغة العربية.
لقد انقضى نصف القرن منذ تعميم العربية في التعليم، وإلغاء التعليم مزدوج اللغة، فهل صارت اللغة العربية في أفضل أوضاعها في البلاد؟ من المحتمل أن الإجابة ستكون بالنفي. لأن هذه اللغة ظلت رهينة السياسة، ولم تتحرر من قبضتها، لم تسترد صفتها كمسألة لسانية، بل حكمتها أهواء الساسة. فكلما حل رئيس جديد، حلت قوانين جديدة، كل رئيس يصل إلى الحكم يجر معه عربة قوانين تمحو ما فعله سابقوه، وهكذا دواليك. عندما قال كاتب ياسين إن «الفرنسية غنيمة حرب» في الجزائر، نسي أن يضيف أن العربية سجينة سياسة. وبما أنها لم تستعد صفتها الثقافية، ولم تتحرر من المناوشات، ولم يفرج عنها من مكاتب القرارات، فمن المقدر أن يظل حالها كما كان، لغة رسمية ووطنية على الورق، لكن تعليمها في تذبذب، واللسان الجزائري غير قادر على التحكم فيها.
مقبرة القوانين
عقب استقلال البلاد (1962) تحولت فرنسا أو المُستعمر القديم إلى الشريك الاقتصادي الأول للجزائر، وجرت محاولات من أجل طي صفحة الماضي وتجاوز حرب التحرير، كما ظهرت بوادر علاقة طبيعية بين الطرفين، لاسيما عقب زيارة فرنسوا ميتران إلى الجزائر عام 1981، وظن البعض أن العلاقة سوف تسير على تلك الحال في المستقبل، لكن شابتها توترات، بلغت ذروتها مطلع الألفية الجديدة. مع ارتفاع أسعار البترول، الذي أتاح للبلاد بحبوحة مالية، بلغ الظن أن بالإمكان فك الارتباط مع الشريك الاقتصادي الفرنسي، وظهر تيار يطلق عليه «تيار الذاكرة» طالب فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الكولونيالي في البلاد. ما لم يطالب به الجيل الأول من مناضلي حرب التحرير، طالب به جيل لاحق. لكن سرعان ما تهاوت أسعار البترول وخفت صوت «تيار الذاكرة» الذي يصحو وينام، حسب امتلاء أو شغور الخزينة العمومية. مع ذلك فإن أشد الناقمين على فرنسا، لا يتوانون في تعليم أبنائهم اللغة الفرنسية، التي ظلت لغة سائدة، وهي لغة سوق العمل، في حين أن اللغة العربية ظلت لغة تسن بشأنها القوانين. فإذا عدنا إلى الدستور الأول للبلاد (1963) سوف نطالع المادة 5 منه، التي تفيد بأن «اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية» مع أن الوثائق الإدارية في تلك السنوات كانت كلها تصدر باللغة الفرنسية، والصحيفة الحكومية كذلك بالفرنسية، بل إن جمعيات إسلامية، تحث الناس على اعتناق الدين كانت تصدر مطبوعاتها بالفرنسية. حصل شرخ بين القانون والواقع، وتطلب الأمر الإسراع في تعليم العربية، لكننا أسرعنا في إصدار القانون تلو الآخر.
في عام 1976، مع صدور الدستور الثاني، انتقلت العربية من المادة 5 إلى المادة 2، محافظة على مكانتها كلغة وطنية ورسمية، بينما سوق العمل لا يزال يفتح ذراعيه لمتعلمي اللغة الفرنسية بالدرجة الأولى. في عام 1986 تقرر إنشاء «الأكاديمية الجزائرية للغة العربية» مهمتها ترقية اللغة العربية في الآداب والعلوم، وهي مؤسسة لن نجد لها أثراً في السنوات اللاحقة. وبمناسبة عيد الاستقلال في عام 1989، صدر قرار رئاسي بإنشاء «جائزة هواري بومدين لتطوير الإبداع باللغة العربية» وككل مرة لم يخرج أمرها عن الورق. توالت قوانين أخرى، مثل قانون يناير/كانون الثاني 1991، الذي يفرض تعميم اللغة العربية، وهذا القانون كان واحداً من أغرب القوانين، يفرض عقوبة على من لا يتعامل باللغة العربية في الإدارات، عقوبة تتمثل في غرامة مالية. هل يمكن أن نربط تعلم اللغة بالعقوبة؟ إن منطق العقوبة يجعل الناس ينفرون منها، وهذا القانون كذلك ظل حبراً على ورق. جرى في وقت لاحق إنشاء المجلس الأعلى للغة العربية، وتعددت الخطابات والقوانين، وظلت اللغة العربية حبيسة القوانين والورق، من غير أن تشق طريقها في المجتمع، دون حواجز، كما هي طبيعة اللغات الأخرى.
بين اللغة والدين
كان بوسع الأدب أن يلعب دوراً في تعزيز مكانة اللغة العربية، لكنه ظل أدباً مركزياً، يُطبع في الجزائر العاصمة ويتماهى مع المركز، مع إلغاء المدن والقرى الداخلية من مخيلته، وإن تحدث عنها فإنما في سياقات فلكلورية. أدب في قبضة الحزب الواحد، يمضغ الخطابات السياسية ويعيد تدويرها بشكل قصائد وروايات وقصص قصيرة، هكذا كان الحال إلى غاية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما وصل الإسلاميون واستفادوا من هذه الثغرة، ومن عجز الساسة في تطوير اللغة ونشرها، فجعلوا من اللغة العربية واحدة من قواعدهم من أجل توسيع حضورهم، إلى درجة أن تعليم العربية ارتبط بتلقين الدين، ووقعت المدرسة نفسها في هذا الفخ، حيث وجد الأطفال أنفسهم يتعلمون العربية على يد معلمين يمزجون النحو بالفقه والشريعة، لذلك يجد خصوم اللغة العربية التهمة جاهزة، في الربط بين العربية والتدين، بل إن الأكثر تطرفاً منهم يربطون العربية بممارسة المتدينين العنيفة، ويمكن بسهولة أن نخرج من هذه التهمة في حال أعدنا النظر في علاقتنا باللغة العربية، في حال تحريرها من قبضة السياسة والقوانين المكررة، في حال أعدناها إلى صفتها الأولى كلغة أدب وفنون وفلسفة وحداثة، فلا تظل حكراً على أحزاب متدينة، وتخلينا عن الزج بها في تسوية خلافات مع فرنسا، أن نتيح لهذه اللغة حقها في أن تسير في سبيلها، وتكسب مكانة لها، بعيداً عن الاضطرابات في دوائر السلطة، وألا نفكر بأن العربية نقيض لغة أجنبية أخرى، بل لكل لغة تاريخها، ولا واحدة تلغي الأخرى. كما إن العربية مشترك بين الجزائريين، مثلما تجمع بينهم مشتركات أخرى، نكتب ونقرأ بها، رغم هذا الفراغ الحاصل بين القوانين السياسية ومكانة العربية في الواقع.
كاتب جزائري