الغد
جون رينتول* - (الإندبندنت) 2025/10/4
واصل توني بلير مسيرته السياسية والدبلوماسية بإيمان لا يتزعزع بقدراته الاستثنائية، من إيرلندا الشمالية وكوسوفو إلى الشرق الأوسط، من دون أن يحقق تقدماً يُذكر في قضية الدولة الفلسطينية. واليوم، بعد موافقة واشنطن وتل أبيب وسبع دول عربية على خطته لغزة، يجد نفسه على أبواب مشهد استثنائي: أن يتحول من أكثر السياسيين إثارة للجدل في المنطقة إلى مرشح محتمل لجائزة نوبل للسلام إلى جانب دونالد ترامب.
حتى الأشخاص الذين يحبون رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وأولئك الذين عملوا معه، لم يترددوا في وصفه بـ"المسيحاني". وقد لا تكون هذه العبارة هي الأنسب، بالنظر إلى ما تحمله من دلالات توراتية، لوصف دوره في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. لكنها عبارة تعبّر بدقة عن اقتناع عميق لديه بأنه يمتلك قدرات استثنائية تمكنه من التوفيق بين ما يبدو مستعصياً على أي توفيق أو تقارب.
هناك في الواقع ما يبرر هذه الثقة المفرطة لدى توني بلير بنفسه. في غضون عام واحد فقط من توليه رئاسة الوزراء في المملكة المتحدة، نجح في التفاوض على تسوية للصراع في إيرلندا الشمالية. وإذا كان ذلك قد منحه ثقة كبيرة بقدرته على أن يحرز التوفيق في تجاوز أحقاد متجذرة، فمن يمكن أن يلومه على ذلك؟
لكنه واصل هذا المسار. فبعد نحو عام، قام بحشد "حلف شمال الأطلسي" (ناتو) المنقسم على ذاته -حتى الرئيس الأميركي في ذلك الحين، بيل كلينتون، الذي كان متردداً- لإجبار الديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش على التخلي عن محاولته طرد السكان الألبان في كوسوفو من وطنهم.
لكن هذه النجاحات مهدت الطريق للغطرسة التي رافقت غزو العراق، عندما اعتقد توني بلير أنه سيتمكن من إقناع الرأي العام البريطاني بأن رئيساً آخر للولايات المتحدة، جورج دبليو بوش، كان محقاً في الإطاحة بدكتاتور آخر.
قبيل انتخابات العام 2001 في بريطانيا، وقبل وقوع أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وغزو العراق، قال بلير: "مررت قبل أيام بأحد المتظاهرين، كان يصرخ ويصيح. ووجدت نفسي أتساءل: ما طبيعة شخصيته الحقيقية؟ وما الذي يفكر به فعلاً؟ ربما يمكن الجلوس معه وإجراء نقاش عقلاني تماماً".
ظل بلير مؤمناً بقدراته الاستثنائية حتى بعد مغادرة منصب رئيس الوزراء، فتولى مهمة مبعوث إلى الشرق الأوسط بتكليف من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا. وكانت مهمته الأساسية هي المساعدة في تطوير البنية التحتية لفلسطين، بما يمكنها من أن تصبح دولة مستقلة. وقد شكلت هذه البنية الأساس العملي للشعارات الكبرى حول حل الدولتين، حيث انخرط بلير في مفاوضات شاقة ورتيبة، بدءاً من مسائل محطات الصرف الصحي وصولاً إلى شبكات الهاتف المحمول. لكنه كان على يقين دائم بأن العلاقات السياسية رفيعة المستوى بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية والدول العربية هي الأكثر أهمية، وهي التي ستحدد في نهاية المطاف النتيجة. وقد عمل بجد وبلا كلل على هذا المستوى أيضاً.
لكن ذلك كان بلا جدوى، وقد تنحى عن منصبه ذاك في العام 2015 بعد نحو ثمانية أعوام، من دون أن يحرز أي تقدم يذكر في قضية إقامة الدولة الفلسطينية.
مع ذلك، امتدت طموحاته إلى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط. ففي العام 2009، لم يمانع بلير في طرح اسمه لشغل المنصب الجديد لـ"رئيس الاتحاد الأوروبي"، على الرغم من أنها لم تكن هناك في الواقع أي فرصة حقيقية لأن يقدم قادة دول الاتحاد، ومن بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على تعيين شخص قد يهدد سلطتهم إلى هذا الحد. وفي النهاية وقع الاختيار على سياسي بلجيكي مغمور.
ربما بدت هذه الطموحات لمرحلة ما بعد رئاسة الوزراء ضرباً من الخيال. لكن تصميم بلير على "عدم الاستسلام أبداً"، كان يحمل طابعاً تشرشلياً. ولم يستسلم على الإطلاق. في غضون أسابيع قليلة من الهجمات التي نفذتها حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على بلير اقتراحاً بتعيينه "منسقاً إنسانياً" في قطاع غزة، وهي خطوة استهدفت تخفيف الانتقادات الدولية للحكومة الإسرائيلية على تسببها بمعاناة المدنيين في الحرب التي تشنها على "حماس". ولم تسفر تلك المحاولة عن نتائج، لكن بلير استمر في التواصل مع أصحاب النفوذ الرئيسين، بمن فيهم جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سهل له الوصول إلى سيد البيت الأبيض.
لم يتردد بلير، البالغ من العمر 72 الآن، خلال اجتماع عقد في البيت الأبيض، الشهر الماضي، عن كيل المديح للرئيس الأميركي وإبلاغه بأنه رشحه لنيل "جائزة نوبل للسلام". ثم قدم له خطة، صاغها بلير بنفسه في الغالب، لإدارة قطاع غزة بقيادة الولايات المتحدة، وذلك بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
وفي الأيام القليلة الأخيرة، وافقت الولايات المتحدة وإسرائيل وسبع دول عربية على خطة توني بلير. وعلى الرغم من البيان الذي صدر يوم الاثنين من الأسبوع الماضي عن "حماس" والذي قالت فيه إن رئيس الوزراء البريطاني السابق هو "شخصية غير مرحب بها في السياق الفلسطيني"، إلا أن من المفترض أن توقع الحركة على الاتفاق في نهاية المطاف.
في إعلانه لخطة إنشاء "مجلس للسلام"، أشار ترامب إلى بلير قائلاً: "أحد الأشخاص الذين يرغبون في الانضمام إلى المجلس هو رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير"، وكأن دور بلير لم يحسم بعد. لكنه مضى ليصفه بأنه "رجل جيد، رجل جيد جداً".
سيكون من المدهش حقاً لو أن طاقة توني بلير وإصراره وتفاؤله، الذي يلامس أحياناً حد الوهم، أثمرت عن جائزة السلام في غزة. وسيكون أشد إثارة للدهشة إذا انتهى به المطاف، وهو المكروه من كثيرين بسبب الدور الذي لعبه في جزء آخر من الشرق الأوسط، إلى الوقوف إلى جانب دونالد ترامب كفائزين بـ"جائزة نوبل للسلام".
*جون رينتول John Rentoul: كاتب وصحفي بريطاني بارز، يشغل منصب كاتب عمود ومحرر سياسي في صحيفة "إندبندنت" البريطانية. يعد من أبرز المعلقين على الشأن السياسي البريطاني، خصوصًا ما يتعلق بحزب العمال. عُرف بتحليلاته المتعمقة ومواقفه المؤيدة للجناح الوسطي داخل الحزب، وكان من المقربين فكريًا من رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، حتى وُصف بأنه أحد أبرز من عبّروا عن فكر "البليرية" في الصحافة البريطانية. ألّف عددًا من الكتب، أبرزها "السيرة السياسية لتوني بلير"، وهي من أهم المراجع لفهم تلك الحقبة.