عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Nov-2020

الحروب العادلة وتدجين المستقبل*جمال الطاهات

 الدستور

فكرة الحرب العادلة، تفترض وجود منظومات غير عادلة، يجب خوض الحرب ضدها. فالحرب ضد العبودية، مبررة، لان العبودية أسوأ من العنف والموت والدمار، وكلفة العبودية اعلى من كلفة الحرب. وفي ستينيات القرن الماضي، اقترح المفكر الفرنسي (جين بودريلارد) الذي يرى أن التاريخ الإنساني كله تحول إلى سلة مهملات، أن يعتمد اقتران الموت بالدمار، كإمكانية «وحيدة» لتفكيك أي ترتيب أو منجز يعترض الارتقاء الإنساني. أي أن الحرب، كإمكانية متاحة بيد الإنسان، هي التي تضمن عدم الخضوع لأي فكرة تبتذل الإنسان وتنتقص من قيمته. وهذا الفهم يقر ضمناً، فهماً للحرب، بأنها صنو للميلاد، وتشترك معه بخاصية مركزية وهي أن كليهما يمنع السيطرة على مستقبل الإنسان، ويمنح الوجود الإنساني تاريخيته.
لكن، رغم الرؤية المتفائلة للمستقبل المنتجة للحرب، فإن الطريق نحوه غامضة وملتبسة، بمقدار غموض مسارات الحرب وعدم يقينها. فالمستقبل هوالطريق وليس المحطة. فلا يمكن عزل المستقبل عن المسير نحوه، فهو وإن اجلسته الأحلام بمحطات بعيدة، فإن صوره تبنى من آلام الحاضر وخيباته وشهواته ونزوعاته، ووقائعه المعلقة بحدود الفعل الممكن، لتغييرها وتطويرها. ولكنها تعود لتتلبس الواقع الراهن، وتنتج الفهم المختلط والملتبس والمتحول لتفاصيله. وفي طريقنا نحو الجنة، تحول المستقبل «لغواية متجددة ومسيطرة» تجذبنا للمضي نحوه، بوعي أو من دونه.
فلولا نضوج صورة للمستقبل بلا عبودية (كمحطة في الطريق نحو الجنة)، ما كانت الحرب ضد العبودية، لتكتسب عدالتها ومبرراتها. وحروب الضرورة تأتي لتصحيح الواقع وتقريبه من مثال له جاذبية آسرة. حروب نابليون التي دمرت معيقات الحركة نحو المستقبل، بررتها مُثل وقيم عليا، لتطوير الحياة، وتصحيح مساراتها، أكسبت الحرب معناها الجديد، بانها سلسلة متصلة لتصحيح الواقع في ضوء مثال مطلوب. وهذا الذي يجعل صور المستقبل، والأفكار الحاضرة حوله، جزء عضوي ومكون رئيسي، من مكونات الواقع وتصوغ ممكناته.
إن فهم فاعلية فكرة المستقبل وصوره التي ينتجها الحاضر كمحرك لتغييره، استحضر القدرة والرغبة «بتدجين المستقبل»، والسيطرة على مساراته، وضمان سلميتها. إدراك جاذبية المستقبل وصوره ووعوده، ليس لتغذية أوهام تجنبه ومنع قدومه. «تدجين المستقبل»، لا تعني التخلص من استحقاقاته وتجنب حتميته، والتخلص من هيمنته على توجيه خيارات الراهن. إنجاز العقل الإنساني يتلخص في ضمان التطور السلمي والآمن، حتى لا تبقى قوة جذب المستقبل، اداة تدمير عمياء، تضرب حين تتاح لها الفرصة (وتدمر جدران الحاضر بأحلام الواقع البديل). إن تدجين المستقبل يتلخص بتحريره من الحاجة للحروب التي ستحققه، وفصل أهداف الحروب عن معاركها، والتخلص من حالة عدم اليقين المرافقة لها، بربطها بسلسلة من التحولات الآمنة.
فحروب الضرورة، تبنى على قرار بأن كلف الوضع الراهن (والتي تتمثل بغياب المستقبل)، اعلى من كلف الحرب. وهذا القرار معلق بمعادلة أهداف الحرب وكلفتها. فتجنب الحرب ليس فقط برفع كلفتها، لتقليل الميل لاعتمادها كحل. ولكن بنفي مبرراتها (التي تنتجها صور المستقبل)، بتعبيد طريق سلمي وآمن نحوه. وهذا متعلق بتطوير فكرة الحرب، وبدء التمييز بين أهدافها، ووسائلها واداوتها. وصولاً لاكتشاف وتطوير الفرص، بإزالة المعيقات نحو المستقبل بوسائل مدنية وغير تدميرية.   
أحلام المستقبل، هي التي تمنح للحروب أهدافها وعدالتها، وترسم تفاصيل احتفالات النصر ورموزها، وتبرر الوعود المرة للحرب: خليط حارق من العرق والدم الدموع، كما وصفها وينستون تشرتشل. ولكن فكرة الحرب العادلة، ضرورة لتدجين المستقبل، ونفي الحاجة للحرب، بتحرير أهدافها من ميراث ادواتها. فالوعي بضرورة الحرب وحتميتها، شرط لتحرير المستقبل من وسائلها التدميرية، وتحقيق أهدافها العادلة (حتمياتها)، دون حاجة للقتل والتدمير.