الزيتون في المدارس ليس مجرد درس... إنه حكاية وطن تُروى للأجيال بلغة القلب والعمل
الدستور - رنا حداد -
في كل خريف، ومع حلول موسم قطاف الزيتون، تتحول الروضات والمدارس في مختلف محافظات الأردن إلى مساحات نابضة بالحياة، تمتزج فيها رائحة التراب بزيت الزيتون، وصوت الأطفال بترانيم الأغاني الشعبية. هذا الموسم، الذي يُعدّ جزءًا من هوية الأرض الأردنية، لم يعد مجرد حدث زراعي، بل أصبح مناسبة تربوية وثقافية تُسهم في بناء الوعي والانتماء لدى الأجيال الناشئة.
تستثمر المؤسسات التعليمية، من الروضة وحتى المرحلة الأساسية، موسم الزيتون باعتباره فرصة تعليمية متكاملة، تُغرس من خلالها قيم العمل، والمحبة، والتعاون، وترسّخ ارتباط الطفل بأرضه وتراثه.
القيم التربوية تبدأ من الحقل
حين يُمنح الطفل فرصة للمشاركة في قطف الزيتون، أو فرزه، أو حتى كبسه في زجاجات صغيرة داخل صفه، فهو لا يتعلم عن الشجرة فحسب، بل عن الجهد المبذول في كل حبة زيتون.
تشرح المربية هناء خالد من إحدى رياض عمّان قائلة: «نحرص في كل عام على إشراك الأطفال في أنشطة موسم الزيتون، لأننا نؤمن أن التعلم بالممارسة هو الأعمق أثرًا. حين يلمس الطفل الثمار بيديه، ويشاهد الزيت يقطر أمامه، يدرك معنى الصبر والعمل الجماعي.» وتضيف « هذه الأنشطة تُعلّم الصغار قيمة الجهد، التعاون، والاعتماد على النفس، وتغرس فيهم حبّ المشاركة والاحترام، بعيدًا عن الدروس النظرية الجافة».
ربط الطفل بتراثه وهويته
الزيتون في الوجدان الأردني والعربي ليس مجرد شجرة، بل رمز للصمود والبركة والهوية. في المدارس، تستعاد الحكايات الشعبية والأمثال القديمة التي تدور حوله، مثل «الزيت عمود البيت» و»الزيت مسامير الركب»، وهي عبارات تُعرّف الأطفال بعمق العلاقة التي جمعت الأجيال السابقة بهذه الشجرة المباركة.
في كثير من الروضات، تُخصّص معلمات الأنشطة الفنية والغنائية لهذا الموسم، حيث يتعلم الأطفال أغاني الفلاحين القديمة ويرتدون الأزياء التراثية، فيشعرون بالفخر بجذورهم وبالإرث الذي ينتمون إليه.
موسم الزيتون لا يقتصر على النشاط الثقافي، بل يدخل ضمن العملية التعليمية نفسها. فالمعلمون يوظفون ثمار الزيتون وأوراقه في دروس العلوم والرياضيات والفن.
يتعلم الأطفال مثلاً تصنيف الزيتون حسب اللون والحجم، ويُمارسون العدّ باستخدام الحبات، أو يرسمون شجرة الزيتون ويكتشفون أجزاءها، أو يستمعون إلى قصص قصيرة عن «الشجرة المباركة» التي ورد ذكرها في القرآن الكريم.
تقول المعلمة أريج حسن من مدرسة في السلط: «نحوّل الموسم إلى مختبر تعليمي مفتوح، يتعلم فيه الطفل الحساب والفن واللغة بطريقة محسوسة. الزيتون يصبح وسيلة تعليمية، لا مجرد موضوع.»
وفي إطار الاحتفال بالموسم، يُعرّف الأطفال على فوائد زيت الزيتون الصحية، وكيف يمكن أن يكون جزءًا من غذائهم اليومي. تشارك بعض الروضات في إعداد وجبات بسيطة مع الأطفال مثل «المناقيش بالزيت والزعتر»، فيتذوقون طعامهم بأيديهم ويستمتعون بتجربة تعليمية عن الأكل الصحي والتقليدي في آنٍ واحد.
تقول أم عمر، وهي والدة أحد الأطفال المشاركين في نشاط جمع ثمار الزيتون «لاحظت أن ابني أصبح يسأل عن مصدر الزيت الذي نستخدمه في البيت، ويتحدث عن شجرة الزيتون كأنها صديق له. هذا الوعي المبكر هو ما نحتاجه فعلاً.»
وأضافت « يتحول موسم الزيتون في المدارس إلى مهرجان صغير للعائلة والمجتمع، حيث يشارك الأهل في الفعاليات، ويحمل الأطفال معهم منتجاتهم الصغيرة من الزيتون المكبوس أو الرسومات إلى بيوتهم. هذه المشاركة تعزز العلاقة بين الأسرة والمدرسة، وتخلق بيئة تربوية يسودها الدفء والانتماء.
وختتمت بالقول أنها تحبذ مثل هذه الأنشطة المجتمعية للطلبة في أعمار مبكرة مؤكدة أن أنشطة مماثلة وقريبة من أرضنا وهويتنا وثقافتنا تتيح فرصًا للتعاون بين الطلاب والمعلمين والأهالي، وتُرسخ في نفوس الصغار قيمة العمل الجماعي والتكافل الاجتماعي، في مشهد يشبه الحصاد الرمزي للقيم قبل الثمار» .
الزيتون... شجرة تزرع في الذاكرة قبل الأرض
من خلال هذه الجهود، يتضح أن اهتمام الروضات والمدارس بموسم الزيتون ليس مجرد تقليد سنوي، بل هو مشروع وطني وتربوي يربط الأجيال الجديدة بالأرض والتاريخ.فالشجرة التي تمتد جذورها في تراب الوطن، تُعلّم أبنائه كيف يثبتون ويزهرون بالعلم والعطاء. إنها تجربة تتجاوز حدود التعليم لتصبح رسالة حبّ وانتماء، يشارك فيها الطفل وهو يقطف الزيتون بابتسامة، لا يدرك بعدها أنه في الحقيقة يقطف أولى ثمار وعيه وهويته.