الغد
منذ الربع الثالث من القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، انصبّت الجهود على تطبيع الكيان الاستعماري الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط. وأحرز هذا الاتجاه تقدمًا، تجسد في إبرام معاهدات واتفاقات بمختلف الأسماء وبذريعة جلب السلام والازدهار إلى الإقليم. ويسجل قادة الولايات المتحدة كل اتفاق جديد في قائمة منجزاتهم، حيث يعني كل منها المزيد من تأمين القاعدة الأمامية للهيمنة الأميركية على المنطقة وتطويع محيطها. لكنّ كل تطبيع إضافي للكيان يعني المزيد من التغريب لشعوب المنطقة ورؤيتها الجمعية وآمالها– ولأسباب وجيهة لا حصر لها. ويعني هذا في الممارسة إغفال حقيقة مهمة، هي أن هناك نوعين من التطبيع: التطبيع الرسمي، والتطبيع الشعبي.
يشير التطبيع الرسمي إلى الاتفاقيات بين الحكومات والدول لتأسيس علاقات دبلوماسية واقتصادية، وأحيانًا عسكرية، مع الكيان. وكما يرى المراقبون بوضوح، غالبًا ما يحدث هذا النوع من التطبيع تحت ضغط خارجي، خاصة من القوى الغربية مثل الولايات المتحدة، ويتضمن حسابات سياسية واقتصادية، ويخضع لمنطق الترهيب والترغيب. وتميل هذه المعاهدات والاتفاقيات إلى تأمين مصالح النخب، لكنها لا تلبي مصالح الشعوب.
Ad
Unmute
في المقابل، يعني التطبيع الشعبي قبول الجماهير العربية بالكيان الاستعماري الصهيوني على نطاق أوسع. ولا يتعلق التطبيع الشعبي بالاعتراف الدبلوماسي الرسمي، بل بانتهاء العداوات الثقافية والاجتماعية والتاريخية العميقة تجاه الكيان. ويبدو واضحًا أن تحقيق هذا الشكل من التطبيع بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلًا. والسبب هو عقود من إراقة الدماء والتشريد والاحتلال التي يمثلها النظام الاستعماري، والتي شكلت الوعي الجمعي العربي المناهض، بشكل طبيعي، لكيان بهذه المواصفات.
الحقيقة الأساسية هي أن تأسيس الكيان على أنقاض فلسطين العربية التاريخية في العام 1948 كان معادلًا لنكبة وطنية، أسفرت عن تهجير أكثر من 750.000 فلسطيني من ديارهم، وتدمير قرى بأكملها. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف الكيان عن شن الحروب والحملات العسكرية- ليس ضد الفلسطينيين فقط، بل ضد الدول العربية المجاورة. بعد حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في العام 1948، كانت أزمة السويس في العام 1956، وحرب الأيام الستة في العام 1967، وحرب لبنان في العام 1982، وغزو لبنان في العام 2006، والغارات على المشاريع النووية في العراق وسورية، والآن، الحرب الوحشية على الفلسطينيين واللبنانيين ودول عربية أخرى. وفي كل من هذه الصراعات، قُتل آلاف العرب، وتشرد الكثيرون، أو تُركوا يعانون تحت وطأة الاحتلالات العسكرية.
ولم يتوقف العدوان عند هذه الحروب، حيث يتميز النظام الاستعماري الصهيوني بممارسة الفصل العنصري في فلسطين، ويجسدها ببناء وتوسيع المستوطنات غير القانونية، والعقاب الجماعي، والاقتحامات العسكرية المتكررة، وينفذ الآن إبادة جماعية وجرائم حرب «محتملة» حسب المحاكم الدولية. ولا يمكن اعتبار كيان فصل عنصري يعيش على استخدام القوة العسكرية الساحقة للقتل بلا تمييز كيانًا طبيعيًا يمكن قبوله وإقامة أي علاقات معه من دون التفريط بالطبيعة الإنسانية والبنى الأخلاقية والديني، وبالتأكيد التخلي عن المصلحة الذاتية التي لا يمكن أن يكون من عناصرها المحافظة على تكوين استعماري وحشي بالممارسة والتعريف.
كان عدد الضحايا العرب الناتج عن العدوانية العسكرية للكيان منذ نشأته- أو الحروب التي خيضت نيابة عنه بهدف تكريس هيمنته- بمئات الآلاف، أو حتى الملايين، والعدد في ازدياد في كل لحظة، مع معاناة لا تُوصف من الأزمات الإنسانية الناجمة عن ذلك. ولا شك في أن وحشية النظام الصهيوني تركت –وتترك- جروحًا غائرة نازفة تزداد عمقًا في الذاكرة الجماعية للعرب، والتي تعزز صورته ككيان عنيف غير شرعي ولا طبيعي.
يصعب أن يجادل أحد في حقيقة أن الجزء الأكبر من عدم الاستقرار الحالي في الشرق الأوسط يعود إلى وجود الكيان، وسياساته ودوره كمحفز للاضطراب في الإقليم. والآن، يبرر رئيس وزراء الكيان المعبر بدقة عن شخصية كيانه العدوانية حربه الإبادية على العرب والمعارضين بأنها تمهيد لتطبيع نفسه مع المترددين، عن طريق التخويف بالقوة العسكرية الساحقة وقدرة الوصول إلى أي مكان في الشرق الأوسط، كما يقول. ومن الواضح أنه يشارك بقية أطراف اتجاه فرض «التطبيع» وهم التمتع بـ»السلام» في محيط من الشعوب الكارهة والرافضة، وكأنه يتوقع أن يفتح العرب العاديون بيوتهم وقلوبهم للمستعمرين الصهاينة أو أن يسير قتلته في الشوارع العربية بأمان.
تدرك الغالبية من الشعوب العربية طبيعة تواطؤ الكيان مع قوى الهيمنة الخارجية، وخاصة الولايات المتحدة. ومع أن البعض يستجيبون لمساعي الكيان إلى زيادة التوتر من خلال إثارة الاختلافات الطائفية والصراعات الأهلية، كما رأينا في سورية والعراق ولبنان، فإن المعظم يدركون أن إثارة أي تناقضات أو خلافات فرعية هي أثمن خدمة تقدم للكيان. ولا يخفى أن دعم الحكومات الغربية للكيان يعمل على تعميق الانقسامات في المنطقة، ويلعب الدور الأكبر في استقطاب التحالفات وتأجيج العداوات.
على الرغم من توقيع الاتفاقيات الرسمية، فإن التطبيع الحقيقي للكيان اللاطبيعي بعيد المنال.. ما يزال الرأي العام العربي معاديًا بشدة ومعارضًا لأي علاقات ودية مع المستعمرين. وما تزال الاحتجاجات، والمقاطعات الثقافية والتجارية، والإدانة العلنية لأعمال الكيان مستمرة، تكتسب المزيد من الأسباب للديمومة. وحتى العلاقات الرسمية أقيمت تحت الضغط والابتزاز، مما يطرح السؤال حول صمودها في ضوء الفشل الحتمي لدمج الكيان شعبيًا في الإقليم.
كما أظهر برود «السلام» الوهمي في الدول المعنية، كانت الاتفاقات رمزية أكثر منها مصالح حقيقية. وهي لم تجلب قبولًا للكيان في العالم العربي بأي شكل ملموس، بقدر ما خلقت وهمًا بالتطبيع. وقد فشلت هذه المعاهدات في حل التناقض الأساسي والطبيعي مع كيان استعماري عدواني بالهوية والممارسة، ولم تجلب سوى المزيد من أسباب الاضطراب، ولم تقدم أي حل لمشاكل المنطقة. كانت مجرد مناورات دبلوماسية تهدف إلى إرضاء القوى الخارجية وتوفير مظهر زائف لاستقرار مؤقت، بعيد كل البعد عن أي سلام حقيقي مستدام.