الغد
سيلفان سيبيل* - (أوريان 21) 11 شباط (فبراير) 2025
وراء الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، يكمن النفوذ المتزايد للقوميين الأصوليين داخل الجيش وغيره من مؤسسات الدولة، وهو صعود مستمر منذ ثلاثين عامًا.
في سلسلة من التحقيقات الاستقصائية؛ تحقيقين ومقال افتتاحي، نشرت بين كانون الأول (ديسمبر) 2024 وكانون الثاني (يناير) 2025، كشفت جريدة "هآرتس" أن العميد "يهوذا فاخ"، قائد الفرقة 252 في الجيش الإسرائيلي، كان قد أصدر أوامر صريحة بارتكاب ما يرقى إلى جرائم حرب في قطاع غزة. وتوثق المقالات الثلاث(1) سلسلة من الممارسات المنهجية التي استهدفت المدنيين في بلدات بيت حانون وجباليا ومخيمات اللاجئين المجاورة.
تبرز الوثائق والشهادات منهجية عسكرية تقوم على معاملة الفلسطينيين كـ"حيوانات بشرية"، وتتمحور هذه الممارسات حول "خط وهمي" يجري على طول محور نتساريم، وهو خط غير محدد ولم يبلغ به الفلسطينيون. وحسب التعليمات، يجب إطلاق النار فوراً على أي شخص يتجاوز هذا الخط -وفقًا لأوامر العميد "فاخ" الصريحة- بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة أو طفلاً. وقد نقل عنه قوله لجنوده بشكل قاطع: "لا يوجد مدنيون، كلهم إرهابيون". ولم يكشف عن هذه الممارسات إلا بعد خمسة أشهر من بدايتها، حين قرر عدد محدود من الجنود والضباط، ممن أصابهم الرعب والاشمئزاز من هذه الممارسات، كسر جدار الصمت والإبلاغ عنها، في حين انصاعت الغالبية العظمى لتنفيذ هذه الأوامر.
"نابليون الصغير"
يشير المقال الأول إلى جثث الضحايا الملقاة عند ما يطلق عليه الجنود اسم "محور الجثث"، التي تنهش أشلاءها كلاب ضالة جائعة. وبعد أن أعلن المتحدث باسم الجيش عن "القضاء على 200 إرهابي" في المنطقة نفسها، صرح ضابط من إحدى الكتائب لصحيفة "هآرتس"، قائلاً: "لم نحص سوى عشرة أعضاء من حركة ’حماس‘، من بين كل القتلى".
ويشير صحفي "هآرتس" يانيف كوبوفيتش إلى أن هذه الاستراتيجية "تتخطى حدود الفرقة 252"، حيث ينقل عن جندي احتياط من "الفرقة 90" شهادته عن حادثة أثارت اشمئزازه، يروي كيف أطلقت فيها طائرة هليكوبتر قذيفة قتلت أباً وابنيه العزل حين كانوا يعبرون هذا المحور غير المرئي الذي لم يكونوا يعلمون عنه شيئاً. ويقول الجندي: "لم يشكلوا أي تهديد لنا. كان ما فعلناه شراً مطلقاً". ولا تنقصنا الشهادات المشابهة، كما نرى في حالة القائد المساعد لإحدى الكتائب الذي حين عارض إطلاق النار على فلسطينيين يحملون أعلامًا بيضاء، رد عليه رئيسه بالقول: "لا يعني العلم الأبيض لي شيئًا. نحن نطلق النار للقتل".
ويقود "يهوذا فاخ" في منطقته حملة يغتال فيها جيش مدجج بالسلاح من دون تمييز آلاف المدنيين. وقد وصل الأمر إلى حد تلقيب بعض الجنود قائدهم بـ"نابليون الصغير". وبعد مقتل يحيى السنوار في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، كان العميد "فاخ" يعبر لمساعديه عن قهره وندمه على عدم تمكنه من الإشراف على عملية لتقطيع أوصال السنوار و"إزالة القداسة عنه" أمام أنصاره. ويذكر أحد الضباط أنه قال ذلك خلال "اجتماع تقييمي رسمي ولم يكن مازحاً". وفي آخر كانون الأول (ديسمبر) 2024، صرح "فاخ" قائلا: "لم نبلغ هدفنا"، والهدف المعني، بحسب ما أسرّ لأقربائه، هو طرد 250 ألف غزي ما يزالون في المنطقة الواقعة تحت سيطرته.
يكشف التحقيق الثاني كيف اتخذ "يهوذا فاخ" قرارات فردية لم يستشر فيها رؤساءه. كما شكل "جيشَه الخاص"، وهو عبارة عن فرقة سرية تتكون من جنود تحت إمرته، أغلبهم متطرفون مسيحانيون، بالإضافة إلى مدنيين جلبهم أخوه "غولان فاخ" إلى غزة بهدف القضاء على كل ما لم يتم تدميره فعلاً في المنطقة -وكل هذا من دون إخطار أحد في الجيش.
وعندما انكشفت هذه الخطط، أعلن المتحدث باسم الجيش أنها "تمت الموافقة على هذه العمليات على المستويات كافة (…) كانت قرارات قائد الفرقة مهنية ومدروسة". كما أثنى على ذكاء الأخوين "فاخ" الشديد، اللذين كانا "بمثابة قوة عسكرية مرخص لها، تتألف من جنود احتياط مؤسسين". كما أن "المزاعم عن إدخال قائد الفرقة 252 مدنيين وسيارات مدنية إلى غزة كلها كاذبة". الجيش يكذب، باختصار، والعملية التي كان من المفترض أن يفتح من أجلها تحقيق معمق أصبحت "مرخصًا لها"، ولم يتم فرض أي عقوبة على العميد المسيحاني إلى يومنا هذا.
نزعة متزايدة النفوذ
عندما حاولت العدالة الإسرائيلية إحالة حراس معتقل "سدي تيمان"، المشتبه بممارستهم التعذيب الممنهج ضد المعتقلين الفلسطينيين، اقتحم نواب وقادة التيار الاستيطاني المسيحاني المعتقل محاولين إعاقة التحقيق بالقوة، ومن دون أن يتعرضوا لأي ملاحقة قضائية. كيف يمكن تفسير هذا التراجع المخزي للقيادة العسكرية أمام سلوكيات تتعارض بشكل صريح مع معاييرها الرسمية؟ يكمن الجواب تحديداً في الهوية السياسية للعميد "فاخ"، المنتمي للتيار الاستيطاني المسيحاني، والفاشي، الذي يزداد نفوذه في الجيش الإسرائيلي منذ ثلاثة عقود. ويبدو أن العميد "فاخ" يتمتع بحماية كافية داخل القيادة العسكرية لخدمة أجندته السياسية الخاصة من دون إعلام رؤسائه. وعمليا، تستسلم القيادة العسكرية أمام هذه التصرفات. هذا هو الوزن الحالي للنزعة المسيحانية في إسرائيل، التي بالرغم من كونها غير متفشية في المجتمع اليهودي، إلا أنها تفرض أجندتها السياسية يوماً بعد آخر.
في تاريخ إسرائيل، لم يكن الجيش متمرداً من قبل. أما اليوم، فقد فرضت حركة متمردة، متمثلة في الاستيطان المسيحاني، إرادتها على الجيش. وتظهر تحقيقات الصحفي كوبوفيتش أن رئيس العميد "فاخ" المباشر لم يوافق مرؤوسه في ما فعل، لكنه لم يفعل -أو لم يستطع فعل شيء للتصدي له.
منذ ثلاثين عاماً -أي منذ مذبحة الحرم الإبراهيمي بالخليل في العام 1994 التي قتل فيها "باروخ غولدشتاين" 29 مصليا وجرح أكثر من 250، واغتيال "إسحاق رابين" على يد "يغال عمير" بعد ذلك بعام- لم يتوقف المعسكر المسيحاني عن توسيع نطاق نفوذه، على الرغم من أنه بقي لمدة طويلة هامشيا في الحركة الصهيونية.
"حمار المسيح"
كان أول من ربط الصهيونية بنهاية الزمان التوراتية هو الحاخام الأكبر الأول في فلسطين، "إبراهيم إسحاق كوك" (1865-1935)، الذي طرح فكرة أن الصهيونية، على الرغم من كونها عقيدة قومية علمانية في بداياتها، تمثل "حمار المسيح"، بمعنى "المغفل المفيد" اليوم. إذ تنص التوراة على أن المسيح سيأتي راكباً على حمار. وبالنسبة لكوك، كان المشروع الصهيوني يحمل مجيء المسيح على ظهره من دون أن يدري.
أسس كوك المدرسة التلمودية "مركز هاراف" (المركز الرباني) في العام 1924 لنشر أفكاره، وظلت حركته هامشية لفترة طويلة داخل الحركة الصهيونية، حتى في صفوف المتدينين، حيث كانت الحركة السياسية التي تسمى بـ"المزراحية" أقل قومية وعدائية بكثير من تيار "حزب العمل" أو ما يسمى بالتيار "التعديلي"، الذي وحد اليمين واليمين المتطرف. ولكن، شكل النصر "المعجزة" خلال حرب حزيران (يونيو) 1967 نقطة تحول أسفرت عن موجة من الصوفية تغذيها فكرة "إسرائيل الكبرى" (بمعنى فلسطين التاريخية). وبقيادة "تسفي يهوذا كوهين كوك" (ابن كوك الأكبر)، الذي عزز الرؤية العنصرية اليهودية، بدأت المسيحانية في التجذر، وأصبحت مدرسته الربانية ركيزة "كتلة الإيمان"، وهي المحرك السياسي للمسيحانية اليهودية.
وقد اختفت هذه الكتلة في الأثناء، لكن ورثتها كثر ونجدهم اليوم في تيارات مختلفة: في الأحزاب الفاشية لإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وكذلك في "حزب الليكود" والأحزاب الدينية الأرثوذكسية، التي تجسد معاً صعود قومية مسيحانية متطرفة أصبحت فاعلاً سياسياً واجتماعياً مهماً، وذات تأثير يتجاوز بكثير ما يسمى بالمعسكر الصهيوني الديني.
كيف حصل ذلك؟ أولاً، تمكن هذا المعسكر من توظيف منطق الاحتلال أفضل من غيره. وعلى غرار جميع الأصوليين، انتقى اليهود الإسرائيليون منهم، في تفسيرهم الحرفي للكتاب المقدس، النصوص التوراتية الأكثر هوياتية. فكل شيء مكتوب مسبقاً، وإذا أحسنا التفسير، سيكون الله في صفنا.
خلال زيارة حديثة لنا إلى إسرائيل، شرح لنا أحد الحاخامات أن هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) كان "معجزة إلهية"، تشير إلى أن الله يرشدنا وأن الوقت قد حان لاحترام رغباته التي تتمثل في الاستيلاء على "أرض إسرائيل" بالكامل. بما أن هذه الأرض "ملكنا" الحصري، وأن الفلسطينيين يمثلون "العماليق"، أعداء اليهود الأزليين، فلم التردد؟ ربما يبدو هذا الخطاب تبسيطياً، ولكن ما دام لا يوجد حل لهذا الصراع، فمن الأفضل وضع حد له بطريقة جذرية في أسرع وقت.
لم تستطع -ولم تُرد- أي حكومة إسرائيلية، سواء كانت يمينية أو يسارية، كبح جماح المسيحانيين. خلال مذبحة الخليل العام 1994، اقترح مستشارو رئيس الوزراء آنذاك، إسحاق رابين، اغتنام الفرصة لإجلاء 80 مستوطناً مسيحانياً متحصنين في قلب المدينة. من سيعارض ذلك في هكذا ظروف؟ لكن رابين ماطل، ثم تنازل عن الأمر. ومنذ تلك الفترة، تضاعف عدد المستوطنين أكثر من ثلاث مرات في الخليل وغيرها، وازداد معه ثقل المسيحانيين.
أخيراً، نجح المسيحانيون في وضع منظومة لوجستية متطورة تزايد تأثيرها باستمرار. في كتابه "باسم الهيكل: إسرإئيل ووصول اليهود المسيحانيين إلى الحكم"، (دار لوسوي للنشر، بوان، 2013. نسخة منقحة، 2023)، يفسر شارل أندرلين كيف نجح اليمين المتطرف الكولونيالي المسيحاني، من خلال استخدام استراتيجية واضحة المعالم تجمع بين الحرب الثقافية والاستيلاء على مواقع استراتيجية في مجالات رئيسية وسط المجتمع، في احتلال مكانة سياسية وإنتاج تأثير مجتمعي، خاصة بين الشباب، وهو ما كان من الصعب تصوره قبل خمسين عاما. عندما دعا شلومو غورين؛ الحاخام الأكبر للجيش، مساء يوم احتلال المسجد الأقصى في حزيران (يونيو) 1967، إلى هدمه لإعادة بناء الهيكل على أنقاضه، اعتبره 99 في المائة من الإسرائيليين مجنوناً خطيراً في ذلك الوقت. أما اليوم، فتعمل العديد من المنظمات على تعزيز فكرة "إعادة بناء الهيكل"، والمدافعون عنها هم جزء من الحكومة.
عندما أخطأ هتلر في اختيار الهدف
تخطى المعسكر المسيحاني الميدان التعليمي الديني ليكتسح كذلك القطاع العام. وهو يمتلك اليوم وسائل إعلام متعددة -مكتوبة ومسموعة ومرئية- وزاد عدد نوابه ودعمه المالي، وسيطر مؤخرًا على رتب مهمة جدًا في الجيش. ويعود الأمر إلى العام 1953 مع أول "يشيفات هيسدر" (أكاديمية عسكرية دينية)، ومهمتها تقديم خدمة عسكرية يتعلم فيها الشباب اليهودي الأرثوذوسكي استعمال السلاح بالتوازي مع دراسة التوراة. في العام 1967، لم تكن هناك سوى ثلاث أكاديميات، وفي 1990 أصبح عددها 13. أما اليوم، فيوجد قرابة 90 أكاديمية! وقد سيطر "مركز هاراف" وأخواته على هذه الأكاديميات، المتواجدة غالبًا في المستوطنات في الضفة الغربية.
يتميز التعليم في هذه المراكز بعنصرية يهودية مخيفة، خاصة تجاه العرب والمسلمين. في العام 2000، صرح حاخام معروف تابع لهذه الحركة، "إسحاق غينزبورغ"، في ملحق جريدة "معاريف" أن "للإنسان العربي روح حيوان". وبعد عشرين عاماً، قال الحاخام غيورا ريدل، وهو من رواد مدرسة "حسدر بني ديفيد" الدينية، للمجندين "إن أيديولوجيا هتلر صحيحة 100 في المائة، لكنه أخطأ في اختيار الهدف"، بمعنى أنه كان عليه إبادة المسلمين وليس اليهود. وفي مثال آخر، صرح زميله من المدرسة نفسها، إليعازر قشتال، على القناة 13 الإسرائيلية أنه "يؤمن بالعنصرية"، مضيفًا "أن للعرب خللا جينيا". ولم يتلق أي واحد من هؤلاء الحاخامات أي توبيخ أو عقاب.
لا ينبغي أن نندهش عندما نرى أن أغلب جنود الفيالق إثارة للمتاعب في صفوف الجيش الإسرائيلي -أولئك الذين يقتلون بلا شفقة المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، الذين نراهم يتباهون بذلك على وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية- هم خريجو هذه المدارس المسيحانية العسكرية.
اليوم، يأتي 40 في المائة من ضباط المشاة المتخرجين في أكاديميات تدريب الضباط من المجتمع الديني المتطرف الإسرائيلي، في حين لا يمثل هذه الحركة سوى 13 نائبا من مجموع 120 في البرلمان. ويطالب عدد كبير من هؤلاء الضباط، قبل كل معركة، جنودهم بالصلاة لكي ينسف الإله اليهودي أعداءهم نسفًا. وعلى سبيل المثال، تتكون كتيبة "نتساخ يهودا" (خلود يهوذا) بنسبة 60 في المائة من متخرجي هذه الأكاديميات المسيحانية العسكرية، ويُتهم جنودها بانتظام بارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين، وقد تم سجن أحدهم على خلفية تعذيب فلسطينيين باستخدام مولدات كهربائية، وتم سجن أربعة آخرين بعد اغتصابهم لـ"مشتبه فيه" -إضافة إلى آخرين لضربهم حتى الموت شيخًا فلسطينيًا يبلغ من العمر 78 عامًا. ولم تتم ملاحقة أي منهم.
أخيراً وليس آخراً، عندما كان شاباً، خضع يهودا فاخ لتدريب عسكري خاص في أكاديمية بني دافيد، وهي الأكاديمية نفسها التي تعلم طلبتها أن هتلر أخطأ الهدف. وبعد سنوات قليلة، تمكن من توظيف خبرته لتدريب ضباط في الجيش الإسرائيلي عندما تولى قيادة أكاديميتهم.
*سيلفان سيبيل: صحفي وعضو سابق في رئاسة تحرير جريدة "لوموند"، ومدير سابق لمجلة "كوريي أنترناسيونال"، ومؤلف كتاب"المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق مسدود"، (منشورات لا ديكوفيرت، 2006). ترجمت المقال من الفرنسية فاطمة بن حمد.
هامش:
(1) يانيف كوبوفيتش، "لا يوجد مدنيون [في غزة]، كلهم إرهابيون: جنود يكشفون عن عمليات قتل عشوائية في حاجز نتساريم"، 18 كانون الأول (ديسمبر) 2024؛ "تسوية غزة بالأرض وتعطيل المساعدات: شعار قائد الفرقة المشرف على حاجز نتساريم"، 1 كانون الثاني (يناير) 2025؛ "افتتاحية: جيش ’فاخ‘ الخاص والفجوة المتزايدة بين المؤسسة العسكرية والقادة المارقين"، 2 كانون الثاني (يناير) 2025. كل الاقتباسات في هذه الفقرة والفقرات الأربع التي تليها جاءت من هذه المقالات الثلاثة.