الدستور
نستبشر خيرا كلما استشعرنا نيات جادة ولمحنا مؤشرات واعدة لاسترداد الريادية الأردنية التي لم تكن مقتصرة على الإعلام، بل الإنتاج الفني وصناعة المحتوى الحقيقي قبل أن تتلاعب به البرمجيات والتطبيقات والمنصات والفضائيات ويتسلل إليه -إلى ذلك المحتوى- المؤثرون أو بالأحرى المتأثرين بمن موّل ووجّه ذلك المنتج، بفتح التاء وكسرها.
لأصحاب القرار وصنّاعه القدرة على تحويل تلك النيات والمؤشرات إلى واقع يفرحنا جميعا بعون الله، ويؤسس لمزيد من النجاحات وفي قطاعات عدة لا تقل أهمية، كالإنتاج الاقتصادي الذي يمس احتياجات الناس ولا يكتفي فقط بملامسة مطالبهم وآمالهم، ولا يتحرج من الشفافية والجرأة -لا الجراءة- على طرح قضاياهم وآلامهم، بأمانة فيها العلاج الشافي الذي لا يبدأ إلا بالتشخيص الوافي الأمين الدقيق لأصل العلّة، لا الاختباء خلف اختلاق الأعذار ودوامة الملامة المتبادلة وتعليق الفشل على مشاجب الآخرين.
مثال واحد يحقق هدفين فيما أرمي إليه. النجاح الذي حققته تغطية النجم عامر الرجوب الإعلامية الميدانية في البريبطة بمحافظة الطفيلة، بما رافقتها من صور، وما سبقها من فريق إعداد كفؤ، يلخّص بميزانية ربما لم تتجاوز المئة دينار، ما يمكن أن تحققه فعالية أو دعاية كلفتها بالآلاف، من نجاح لأي وسيلة إعلام أردنية مقروءة (ورقيا أو إلكترونيا) أو مسموعة أو مرئية. المنافسة والتميز وحتى الانفراد الحصري لا يقدر عليه إلا من عشق وليس من درس أو فهم فقط، تفاصيل التفاصيل في الأردن.
النجاح الأكبر تمثل ليس بتفاعل الجمهور مع «عين وبتسمع» فقط، بل باستجابة شركة مناجم الفوسفات الوطنية الأردنية ذات الاستثمار العربي والدولي فيها، استجابتها لتوفير ما هو أكثر من شربة ماء نظيفة صحية آمنة لا تعطلها الأعذار حتى وإن كانت «سليمة بالمطلق من الناحية البيروقراطية»، فأين روح القانون إذن وأين حسن تقدير «المسؤول» المباشر أو الميداني للموقف كما هو على الأرض لا على الورق أو اللوح الإلكتروني «التابلت»!
القاسم المشترك الأعظم بين الإثارة -إثارة القضية أمام الرأي العام- والاستجابة، بمعنى المرسل والمتلقي للرسالة الإخبارية أولا والإعلامية ثانيا، هو ذلك التداخل الحميد كما فيما يحاك وينسج نسجا، لا في التركيب بين ما هو حكومي رسمي وما هو غير حكومي أو أهلي. معرفة عامر ومشاعره ومهنية فريق العمل، ما كانت لتعرف لنا كجمهور، لو لم يكن صاحب قرار مسؤول قد أجاز التكليف، ومن ثم البث في الصورة التي تابعناها في الوطن والمهجر. شركة الفوسفات الأردنية استجابت هي أخرى بقرار عاجل راشد، اتخذه رئيس الشركة وفي الحالين، مثال على عقلية وروحية المهني المبادر الذي يعرف كيف يحسن طرح قضية، ويتقن الاستجابة في الوقت المناسب والقدر المناسب.
خلال متابعتي أحدث مقابلات عامر وأرمز إليها بالمياه الترابية وفلافل المدرسة التي أثارت فضول طلبة قرية نائية من فلذات أكبادنا، تذكرت الإعلامي الراحل أستاذنا محمد أمين رحمة الله عليه، وبرنامجه قبل أربعة عقود ونيف «ربورتاج الأسبوع». مازالت مقدمة ذلك البرنامج حاضرة في وجدان أبناء جيلي وقد تضمنت كلمات خالدات لسيدنا الراحل العظيم الحسين طيب الله ثراه وكتب مقامه في عليين: الإصلاح يبدأ بالنفس..
إصلاح إداراتنا وقطاعاتنا كلها يبدأ محليا لا مركزيا. صحيح أن التوجيه يأتي من رأس الهرم من القيادة، ومما لا شك فيه أن الزيارات الميدانية التفقدية المفاجئة ومنها المتخفية التي قام بها سيدنا عبدالله الثاني بارك الله في عمره، كلها أساسية وتأسيسية في عمليات الإصلاح والتطوير، لكن الأمر كله يبدأ وينتهي بالفرد، هناك في أبعد قرية وأصغر حيّ أو دائرة أو شركة أو ورشة في أي محافظة في مملكتنا الحبيبة. كاميرات الدنيا كلها وأجهزة العالم لن تكفي في عيونها وآذانها لرصد كل شاردة وواردة، ما لم يبادر صاحب الشأن أو المكلف المؤتمن على خدمة العامة، بالمبادرة، لا بل باستباق الأمور بحسن الإعداد لما قبل وقوع ما يستوجب الإصلاح أو يستدعي الشكوى.
ما يستطيع الإعلام الأردني إنجازه أسرع وأوفر مما سيكلف قطاعات أخرى منها الأمن والاقتصاد والإدارة والاستثمار لو أخفق، لا قدّر الله. الاستثمار الخاص والعام في الإعلام ماليا و»إعلاميا» صار أولوية وطنية ملحة. نعم المأمول هو الدعم الإعلامي «التسويقي» لنجومنا كعامر وغيره من النجوم والطاقات الواعدة على شاشاتنا وإذاعاتنا وصحافتنا الوطنية التي أثق بنجومية الكثيرين من أعلامها، لو منحت الفرص وحظيت بالرعاية.
من الآخر، استرداد الثقة والريادية في إعلامنا يتطلب أن يصير عموميا لا حكوميا ولا حزبيا، عموميا وطنيا مهنيا، فيما تكون أولوية الإعداد والتغطية والترويج لكل ما هو محلي خاص، خاص من حيث خصوصيته المغرقة في المحلية والمناطقية في إطار وطني دائما وأبدا بحيث يبقى الأردن كما في شعار «المملكة» هو «المبتدأ والخبر» وتكون الرؤيا دائما رؤية الأردن انطلاقا من خصوصيته ومصالحه الوطنية لا مجرد مكان لانطلاق أو إطلاق أو استضافات محطات قطاع خاص سواء كانت أردنية أو غير أردنية. من غير المعقول ولا المقبول، أن يسبقنا أحد لقصة أردنية، أو يعرضها بعمق أو على نحو أوفى مما نعرضه من قضايا وأخبار خارج حدود الأردن في أي اتجاه كان.
الإعلام صناعة لا تقل خطورة عن الغذاء والدواء، ولا أهمية عن السلاح. إشاعة تافهة أو سردية كاذبة أو مغرضة، قد تكلف للرد عليها الكثير. ولسان الحال من تجارب كثيرة تذكرنا بأن درهم إعلام خير من قنطار كلام يذهب مع الريح!