عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2025

النار تحت رماد إفريقيا*جمال الكشكي

 الغد

في توقيت متقارب، وعلى مسرح جغرافي متباعد ظاهريا، تتابعت ثلاث وقائع تحمل بصمة مشروع واحد، بدت كحوادث منعزلة: ضربة أميركية مباشرة في شمال نيجيريا، ثم تفجير مسجد أثناء صلاة الجمعة في حمص السورية، وأخيرا اعتراف إسرائيلي رسمي بما يسمى «دولة أرض الصومال».
 
 
أحداث تبدو للوهلة الأولى بلا رابط، لكن تفكيكها يكشف خيطا إستراتيجيا يعاد نسجه بهدوء، عنوانه الأكبر: إعادة تشكيل مناطق الهشاشة عبر ثلاث أدوات: العنف الوظيفي، والكيانات الموازية، والتدخل الأجنبي المقنن.
الضربة الأميركية، التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب بنفسه، لم تكن مجرد عملية عسكرية ضد تنظيم «داعش» أو فروعه في الساحل الإفريقي، إنما كانت إعلاناً صريحاً لعودة سياسة التدخل المباشر خارج الأطر التقليدية، ولكن هذه المرة مغطاة بخطاب سياسي مسيس داخليا، رفع شعاره «حماية الأقليات المرتبطة باليمين» في نيجيريا. 
خطاب يخاطب الناخب الأميركي أكثر مما يصف الواقع النيجيري المركب، حيث الصراع متعدد المستويات: اقتصادي واجتماعي وعرقي وأمني، وليس صراعا دينيا خالصا كما يروج.
وهكذا تتحول نيجيريا - أكبر دولة إفريقية سكانا - إلى ساحة اختبار لقدرة واشنطن على الضرب عن بُعد، وإعادة تعريف الصراعات المحلية لخدمة هدف واحد: شرعنة حضور عسكري متجدد، تحت المظلة القديمة الجديدة: مكافحة الإرهاب وحماية الحلفاء، وهي الوصفة ذاتها التي أنهِكت دولا، وفككت كيانات في أقاليم سابقة.
وفي التوقيت نفسه تقريبا، جاء تفجير مسجد حمص، بعد عامين من غياب التنظيمات المتطرفة عن الصدارة الإعلامية للأحداث الكبرى في المنطقة، ليعيد طرح سؤال مقلق: أين كانت هذه التنظيمات؟ ولماذا تعود الآن لضرب مدنيين في أماكن العبادة، في لحظة بالغة الحساسية تتشكل فيها خرائط إقليمية جديدة؟
 ومن هذا المنظور، يحلل التفجير ليس بوصفه حادثا إرهابيا منعزلا، إنما حالة ضمن نمط أوسع يعيد إنتاج الفوضى لخدمة أغراض سياسية، فوضى «وظيفية» تستدعي التدخل، وتخلط أوراق الصراعات القائمة، وتشوش على البوصلة الأساسية في المنطقة.
أما الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال، فيمثل الحلقة الأكثر وضوحا في هذا المسار، لأنه ينقل التفكيك من مستوى العنف غير المعلن إلى مستوى الشرعنة السياسية العلنية.
إن الاعتراف بكيان انفصالي في القرن الإفريقي يستهدف وحدة الصومال، ويخلق سابقة خطيرة في واحدة من أكثر المناطق حساسية إستراتيجيا، حيث الجغرافيا والممرات البحرية والتوازنات الدولية.
والقرن الإفريقي هو العقدة التي تطل على باب المندب، وتجاور الخليج، وتتحكم في مسارات التجارة والطاقة العالمية، والخطورة الحقيقية، إذن، ليست في الاعتراف ذاته فقط، إنما في إدراجه ضمن مسار أوسع لـ «ترويض» فكرة التفكيك الإقليمي، وتقديم الكيانات الموازية بوصفها شركاء للاستقرار، بينما هي في جوهرها أدوات لاختراق طويل الأمد. 
وهذا الاعتراف يتقاطع زمنيا مع الضربات الأميركية في نيجيريا، ومع عودة «الإرهاب الوظيفي» في سورية، ليرسم لوحة إستراتيجية واحدة: تحريك رقعة الشطرنج الإفريقية - الشرق أوسطية دفعة واحدة.
في هذا السياق، جاء الموقف المصري سريعا وحاسماً، برفض الاعتراف بأرض الصومال والتأكيد على وحدة التراب الصومالي، وهو موقف يعكس إدراكا عميقا لطبيعة التهديد، ليس على الصومال فحسب، إنما على الأمن الإقليمي برمته.
فكرة الكيانات الموازية، إذا ما تركت ترسخت، ولن تتوقف عند حدود دولة واحدة، وقد تتحول إلى عدوى سياسية وجغرافية، تهدد مفهوم الدولة الوطنية ذاته، وتعيد إنتاج خرائط التجزئة الاستعمارية القديمة، ولكن بثوب جديد.
إن ما يجري هو صراع على الموارد والممرات والمعادن النادرة، مغلف بخطابات سياسية وحقوقية وإنسانية، تستخدم فيه التنظيمات المتطرفة كأدوات قابلة للإدارة والتجديد، ويستخدم الفاعلون المحليون كذرائع.
وهكذا يظهر الإرهاب كظاهرة «تدار»، ويعاد إنتاجها عند الحاجة، لتبرير التدخل، وإضعاف الدول المركزية، وتمهيد الأرض لخرائط جديدة.
تظهر إفريقيا اليوم، وكأنها على هامش الاهتمام العالمي، لكنها في الحقيقة واقفة فوق بركان صامت، النار تحت الرماد لا تنطفئ، ومع كل ضربة، وكل تفجير، وكل اعتراف بكيان مواز، تتقد الخطوة نحو لحظة انفجار واسع.
 هذا في ظل غياب إرادة إقليمية ودولية حقيقية، قادرة على كبح هذا المسار التدميري، قبل أن يبلغ ذروته، ويبتلع الجميع.
وفي هذا المشهد المتشابك، لا تبدو الوقائع منفصلة عن سياق دولي أوسع، يعيد تعريف مفهوم السيادة ذاته، حيث تتحول الدول الهشة إلى مساحات مفتوحة لإعادة الهندسة السياسية والأمنية، وتصبح الجغرافيا مجرد منصة اختبار لموازين قوى متحركة. 
وما يزيد المشهد قتامة هو الصمت الدولي الانتقائي، الذي يدين العنف حين يخرج عن السيطرة، ويتغاضى عنه حين يؤدي «وظيفة» محددة في المعادلة الجيوسياسية.
 وبين هذا وذاك، تتآكل فكرة الاستقرار، ويغدو العالم أكثر اقترابا من مرحلة «السيولة الإستراتيجية»، حيث لا رابح حقيقيا على المدى البعيد، سوى الفوضى نفسها، بوصفها الأداة الأنجع «لإدارة» عالم يزداد انقساما واضطرابا.