"الحصار الفايسبوكي".. صرخة كاتبة في وجه الرقابة الرقمية
الغد-عزيزة علي
لا يوثق كتاب "الحصار الفايسبوكي.. يوميات وشهادات"؛ للكاتبة المغربية كريمة دلياس، فقط لحظات الحظر، بل يتوسع ليكشف الآليات الخفية للتقييد الرقمي، وتواطؤ التكنولوجيا مع أنظمة الهيمنة والاستعمار المعاصر، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ولم يكن حظر حساب المؤلفة على "فيسبوك" مجرد إجراء تقني عابر، بل كان شرارة دفعتها إلى الكتابة والاحتجاج، فاختارت أن تحول تجربتها الشخصية إلى شهادة حية، ووثيقة فكرية وأدبية، تسجل فيها مواقف ومشاعر وأسئلة المرحلة.
الكتاب، الذي صدر عن "العائدون للنشر والتوزيع" في عمان، وقدمه الشاعر والروائي ياسين عدنان، لا يقتصر على البعد الذاتي، بل يتحول تدريجيا إلى عمل جماعي يوثق تجارب أخرى مشابهة، ويطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحرية، وجدوى الكتابة، ومكانة الإنسان داخل هذا الفضاء الافتراضي الذي لم يعد "حرا" كما يدعي.
وتعتبر المؤلفة أنه في زمن أصبحت فيه منصات التواصل الاجتماعي منابر حرية التعبير، وساحات افتراضية للنقاش والتضامن والتأثير، يجد كثير من الكتاب والناشطين أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع خوارزميات عمياء، وأنظمة رقمية تُحاصر الكلمة، وتكتم الصوت، وتقيد الرأي. من بين هؤلاء، كانت الكاتبة كريمة دلياس، التي وجدت نفسها فجأة في مرمى استهداف "الرقابة الرقمية"، بعد أن عبرت عن تضامنها مع القدس وأهالي حي الشيخ جراح في وجه القمع والتهجير.
وأوضحت دلياس في مقدمة الكتاب وهي بعنوان "ما جدوى هذا الكتاب؟"، أن الأفكار والدلالات والحقائق التي يتضمنها هذا الكتاب تبين أهميته وقيمته للقارئ المفترض. فالحاجة إلى الكتابة هي تبرر جدواها، لأن الأمر يتعلق بصرخة احتجاجية ضد حصار ظالم فرضه عليها موقع "فيسبوك"، من دون سبب واضح أو إخطار مسبق، وبطريقة تعسفية مفاجئة.
وتضيف المؤلفة أن حسابها الشخصي قد تعرض للحظر والمنع، مما دفعها إلى أن ترفع صوتها عاليا، لتكون لسان حال العديد من الكتاب الذين عاشوا التجربة نفسها، وتعرضوا لمضايقات مشابهة، أو أشد قسوة. أولئك الذين منعت أفكارهم، وحوصرت أصواتهم الحرة ومواقفهم النبيلة تجاه قضية عربية عادلة تحوّلت إلى قضية إنسانية عالمية، وهي القضية الفلسطينية.
وترى دلياس: إن كثيرا من هؤلاء الكُتّاب آثروا الصمت، منتظرين أن تتكرم إدارة فيسبوك برفع الحظر عنهم، في محاولة لإثبات أنهم "مواطنون صالحون" في هذا العالم الرقمي، أو لأنهم اختاروا طريق المهادنة والصبر على البلاء. أما أنا، فقد وجدت أن الصمت لم يكن خيارا متاحا لي، بوصفي كاتبة ومواطنة من الدرجة الأولى في هذا الوطن الفايسبوكي، الذي تعرضت فيه للظلم والإقصاء وتكميم الأفكار، وتقييد حريتي في النشر والمتابعة إنها مواقفي وحريتي التي تنتهك حرمتها بالباطل، والتي كرست لها حياتي وجل كتاباتي".
وتقول دلياس إنها أرادت من خلال هذا الكتاب التعبير عن رفضها لهذا القرار الجائر، الذي تراه منافيا للأخلاق، ولا يمت بصلة لمستوى التقدّم والرقي الذي تدّعيه الأمم المتحضّرة. كما ترى أن هذه السياسات تكشف زيف الديمقراطية التي يُروّج لها، وتُظهر عنصرية بغيضة تنحاز بالكامل للرواية الصهيونية، وتعمل على إسكات كل صوت حر يتضامن مع الشعب الفلسطيني.
وترى المؤلفة أن لا معنى للمواطنة الحقيقية، سواء أكانت افتراضية أو واقعية، إذا لم تقترن بالدفاع عن الكرامة، والتشبّث بالمواقف، والتمسّك بحرية التعبير في أبعادها الشمولية. وتتابع: "أعتبر الفيسبوك وطنا وملاذا، ورئة ثانية تبث الحياة في جسد الروح، فمن غير المعقول أن أختار الصمت بدلا من التنديد، أو أن أتنازل عن حقي في التعبير". لذلك، قررت اللجوء إلى الكتابة، وسيلة للمقاومة والبوح والتوثيق.
وتُشدّد دلياس على أن الحجر على الأفكار وتقييد حرية التعبير في منصّات التواصل الاجتماعي، خصوصا فيسبوك – الذي يُعد من أكبر الملتقيات العالمية للمفكرين والفنانين والأدباء والمبدعين – يُشكل سجنا حقيقيا للكاتب الحر، الذي اختار أن يكتب من صميم ذاته، وبطواعية ومسؤولية. فالكاتب لا يعبّر فقط عن نفسه، بل ينوب عن الآخرين في نقل همومهم، ويُصبح صوتا للحق، ومدافعا عن المظلومين والكادحين، ما دام يؤمن بالقضايا الإنسانية الكونية العادلة والمشروعة.
وتُبرز المؤلفة دور الكتابة بوصفها سلاحا في وجه الظلم، مهما كان مصدره أو شكله؛ فهي مقاومة في مواجهة الرصاص والاستبداد، وهي وطن مستقل يُبنى على الرؤية، والأمل، والانفتاح على العالم. وتقول: "لعل هذا أحد أهم أدوار الكتابة؛ فعندما أغلقت إدارة فيسبوك أمامي أبواب التواصل مع أصدقائي وصديقاتي، ومنعتني من التعبير عن رأيي وحقّي في الغضب، لم أستسلم للبكائيات الفارغة، بل لجأت إلى القلم، وقررت أن أكتب، أن أقاوم بالكلمات، وأن أواصل النضال عبر شاشة الكمبيوتر."
كما تنتقد دلياس بشدة ما تسميه "الديمقراطية الزائفة" التي تتشدق بها شركات التكنولوجيا العملاقة، والتي تعد معولمة كبرى، حيث تكشف ممارساتها العنصرية وانحيازها الفاضح لطرف دون آخر، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي تدّعي تبنيها.والتي تتبناها الحداثة بقوة في كل المجتمعات الراقية، فأين نحن من هذا الرقي الفكري والأخلاقي في موقع يضج بأحداث التكنولوجيات ويضم أكبر عدد من العقول العربية.
وخلصت المؤلفة إلى أن هذا الكتاب جاء كوثيقة حية، توثق مرحلة انتقالية مفصلية في تجربتها الشخصية، وتُطلق صرخة احتجاجية في وجه "مؤسسة إمبريالية"، تمارس القمع ومصادرة الرأي وتكميم الأفواه، في وقت كان فيه الكُتّاب يعدون فيسبوك أحد أهم منابر التعبير الثقافي والإعلامي في الألفية الجديدة. لكنه – في غفلة من الجميع – تحوّل، بحسبها، إلى نظام قمعي غاشم، يفرض حصارا ظالما على "رعاياه".
من جانبه، كتب الشاعر والروائي ياسين عدنان تقديما للكتاب، أشار فيه إلى أن إدارة فيسبوك أغلقت في وجه الكاتبة دلياس كل منافذ التظلّم والاحتجاج، وذلك إثر إعلانها تضامنها مع القدس وأهالي حيّ الشيخ جراح بعد الأحداث التي شهدها الحي في شهر رمضان من عام 2021.
ويذكر عدنان أن حيّ الشيخ جراح، الواقع في القدس، كان قد تعرّض حينها لهجمات عنيفة شنّتها وحدات شرطة الاحتلال الإسرائيلي، مدعومة بمستوطنين مسلحين، حيث فرضوا حصارا غاشما على الحي، واقتحموا منازل الأهالي بالقوة، في محاولة لتهجيرهم قسرا.
وقد جاء تضامن الكاتبة المغربية مع ضحايا هذا التهجير تلقائيا وعفويا، نابعا من موقف إنساني واضح، إلا أن منعها من التعبير عن هذا التضامن على صفحات فايسبوك أزعجها بشدّة، ودفعها للإصرار على التعبير عن هذا الإزعاج، متسائلة:"إذا كان لا يُسمح لي بالتعبير هنا، فأين؟ وعبر أي وسيط؟".
ويُضيف عدنان أنه قبل أن تبدأ المؤلفة بتدوين يوميات الحظر الفايسبوكي، التي جاءت في شكل تدوينات ذاتية بسيطة، عادت دلياس إلى دفترها الشخصي، بعدما أُغلقت في وجهها أبواب فيسبوك، وانقطعت صلتها بجدار المنصة الأزرق. ومع مرور الوقت، تطوّر هذا المشروع الكتابي، واتضحت رؤية الكاتبة، وتبلورت مواقفها الفكرية، ليتحوّل النص من توثيق ذاتي إلى تحليل نقدي للحظر الذي يفرضه فيسبوك، ثم إلى محاولة لتفكيك بنية هذه "الآلة العمياء" التي تُقرر ما ينبغي الترويج له، وتُطبق ذلك بمنهجية صارمة.
وخرجت المؤلفة من التجربة الصغيرة الذاتية إلى معالجة شمولية لقضية التقييد الفيسبوكي، فبدأت في استقصاء تجارب الآخرين وجمع شهاداتهم، خصوصا بعد العملية التي أطلقت عليها إدارة فيسبوك اسم حملة ضد ما سمّته "المحتوى الفلسطيني"، وضعت بموجبها خوارزميات تكنولوجية تراقب كل كلمة أو رمز ذي علاقة بالهوية والحضارة الفلسطينية.
وخلص عدنان إلى أن هذه الخوارزميات أصبحت أداة فعالة في تضييق الخناق على النشطاء والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية في مختلف أنحاء العالم، من خلال مراقبة المحتوى وحذفه، أو حظر الحسابات، بطريقة ممنهجة، مؤكدا على أن هذا التحول في المعالجة، وهذا الاتساع في النظرة، التي صارت أكثر شمولية أكسبا الكتاب قيمة خاصة، فهو لم يعد مجرّد شهادة فردية، بل أصبح شهادة جماعية بصوت واحد، وفضحا قويا لأوهام "الحرية الإلكترونية" التي كان يُفترض أن تميز فضاء مثل فيسبوك.