عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Sep-2023

في إيران "أغلبية صامتة" ما تزال بعيدة عن التعبئة السياسية

 الغد-راز زيمت* - (أوريان 21) 14 أيلول (سبتمبر) 2023

يبدو المجتمع الإيراني منقسمًا بشدة في ظل الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ سنة، حيث يتصادم فيها معسكران: من ناحية، هناك أنصار النظام الإسلامي، الذين يتميزون باعتناق موقف محافظ للغاية؛ ومن ناحية أخرى، هناك الإصلاحيون وقسم من الشباب التواقين إلى الحرية. وبين هذين القطبين، تنأى "أغلبية صامتة" واسعة جداً بنفسها عن الانخراط في الصراع.
في 7 تموز (يوليو) 2023، أحيت إيران ذكرى "يوم الغدير". ووفقًا للعقيدة الشيعية، ألقى النبي محمد في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة للعام 632 خطبة في واحة غدير خم الواقعة بين مكة والمدينة، عين فيها علي بن أبي طالب خليفة له. وقد أقيمت الاحتفالات في جميع أنحاء البلاد تحت رعاية الحكومة. وتشير التقديرات إلى أنها اجتذبت ملايين المشاركين. وجرى الحدث الأكثر أهمية في طهران، وشهد موكباً امتد على مسافة عشرة كيلومترات من ساحة الإمام الحسين إلى ساحة آزادي. وأثارت هذه المسيرات الاحتفالية نقاشا عاما حيا حول معنى هذه المشاركة الواسعة في الاحتفالات الدينية، وحول مكانة الدين في المجتمع الإيراني.
فسر مؤيدو النظام، وخاصة من داخل الفصيل المحافظ، هذه الأحداث على أنها مظهر جديد للورع الديني العميق وواسع النطاق الذي يميز المجتمع، ورد على أولئك الذين يرون أن هناك اتجاهاً نحو العلمنة في الجمهورية الإسلامية. وفي المقابل، جادل منتقدو النظام بأن المشاركة في المسيرات ليست دليلاً على تدين المجتمع، كما أنها لا تعني أن هناك دعماً شعبياً للنظام وسياساته. بل يعزو هؤلاء المشاركة الكبيرة في الاحتفالات إلى انجذاب الجماهير إلى الهدايا والمكافآت، وبالتالي فإن حضورهم لا يدل بالضرورة على قوة الإيمان داخل المجتمع.
اتجاهات عميقة 
في المجتمع الإيراني
يندرج النقاش العام الحالي حول مسيرات "غدير" في سياق الاتجاهات العميقة التي شكلت المجتمع الإيراني على مدى العقود الماضية، بدءاً بعملية سريعة من العلمنة، تعززت بسبب تراجع مكانة رجال الدين. وليس هناك شك في أن التسييس المفرط للدين في إيران وعدم قدرة النظام على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تُطرح على المواطنين، فضلاً عن الفساد المستشري، قد أدت إلى تآكل دعم الرأي العام للنظام الثوري بشكل ملحوظ، وهو الذي كان قويًا على نطاق واسع. والأهم من ذلك أن هذه العوامل قللت من جاذبية الدين لدى كثير من الناس. وتشهد استطلاعات الرأي على تطور السلوك الديني ومستوى المحافظة لدى السكان الإيرانيين. ويقدم استطلاع للرأي أجراه معهد استطلاعات الرأي الإيراني (ISPA) في العام 2020 مثالاً جيّداً على ذلك: 47.4 في المائة من سكان طهران لا يلتزمون بصيام رمضان. ويتجلى التراجع في ممارسة الشعائر الدينية بشكل خاص في عدم الالتزام بقواعد اللباس الإسلامي، ولا سيما ارتداء الحجاب الإلزامي للنساء، وانخفاض نسبة الحضور في المساجد.
تراجع مكانة رجال الدين
بالتوازي مع عملية العلمنة، هناك تراجع مستمر في مكانة رجال الدين في إيران. وتُعزى هذه الظاهرة جزئيا إلى ارتباطهم بالنظام الإسلامي، الذي يُنظر إليه على أنه مصدر للظلم. وهناك عامل آخر هو الوضع الاقتصادي الأفضل نسبيا الذي يتمتع به العديد من رجال الدين، إلى جانب ميلهم إلى ترك مسافة بينهم وبين الآخرين والحد من تفاعلهم مع العامة، ما يخلق هوة بينهم وبين المواطنين العاديين. وقد اعترف رجل الدين الإصلاحي، رسول منتخيبنيا، في حديث مع صحيفة "هم‌ میهن" اليومية، بأن العديد من الشباب يبتعدون عن الإسلام ورجال الدين.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الإيرانيين الذين يعتبرون أنفسهم مؤمنين أو متدينين يوافقون بالضرورة على سياسات النظام، أو يلتزمون من دون تحفظ بالمبادئ الأساسية للجمهورية الإسلامية. وعلى سبيل المثال، هناك معارضة لإلزامية ارتداء الحجاب حتى عند أشخاص لا يعارضون ارتداء الحجاب من حيث المبدأ، بما في ذلك بين بعض رجال الدين. وهكذا، كان من بين المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع بعد وفاة مهسا أميني المأساوية نساء يرتدين الحجاب، ليعبرن عن معارضتهن لسياسات الحكومة. وقد أكد أحمد مزاني، رجل الدين الإيراني والعضو الإصلاحي السابق في البرلمان الإيراني في مقابلة مع أحد المواقع على شبكة الإنترنت، أنه إذا كانت مشاركة المواطنين في الاحتفالات الدينية يمكن أن تعكس معتقداتهم الدينية، فلا يجب أن تُؤول -خطأ- على أنها تأييد لأفعال الحكومة.
من ناحية أخرى، لا ينبغي تفسير العلمنة المعلنة ولا مظاهر الكراهية تجاه رجال الدين على الفور على أنها رغبة في التغيير السياسي. تستمر الفجوة بين مؤسسات النظام والجمهور، وخاصة جيل الشباب، في الاتساع. وبالتوازي مع ذلك، تتزايد الانتقادات اللاذعة للجمهورية الإسلامية، مما يؤدي إلى تراجع ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة وزيادة الشعور بخيبة الأمل. وقد أصبح هذا الاتجاه واضحا بشكل خاص من خلال موجات الاحتجاج الأكثر تواتراً والأكثر كثافة التي لوحظت في السنوات الأخيرة. وكثيراً ما تنزلق هذه الاحتجاجات نحو أعمال عنف، لتصحبها شعارات تدين وجود حكم رجال الدين في حد ذاته. لكن الشعور المتزايد باليأس غالباً ما يدفع المواطنين إلى البحث عن طرق بديلة للتعامل مع الواقع: الهجرة، واللامبالاة بالسياسة، والميل المتزايد إلى الهروب العقلي من العالم الحقيقي، فضلاً عن المشاكل الاجتماعية المثيرة للقلق مثل الانتحار وإدمان المخدرات.
إضافة إلى ذلك، ما تزال بعض شرائح الشعب الإيراني تخشى حدوث تغيير ثوري يمكن أن يؤدي إلى فوضى سياسية. ففي نظر العديد من الإيرانيين، تبدو البدائل المحتملة للنظام الحالي أكثر سوداوية، مع احتمالات تتراوح بين نشوب الحرب الأهلية وتفكك وحدة أراضي البلاد، أو استيلاء "الحرس الثوري الإيراني" على السلطة في حالة حدوث انهيار سياسي. ولذلك، يمكنهم أن يرضوا حاليا بالبحث عن ظروف اقتصادية أفضل والحد تدريجيا من تدخل الحكومة في حياتهم اليومية.
تأثير الثقافة الغربية
يتميز المجتمع الإيراني بأنه معقد، وقد شهد منذ الثورة الإسلامية تغيرات ديموغرافية وثقافية واسعة النطاق. وكان لعمليات التغريب والتحديث والعلمنة تأثيرات سياسية متنوعة، بل وحتى متناقضة أحيانًا. فقد أدى التعرض للثقافة الغربية الحديثة إلى الفردانية وتبني وجهات نظر أكثر ليبرالية، ولكن الاتجاه نحو ثقافة تتمحور على الاستهلاك والترفيه قد يعزز في بعض الأحيان ميل جيل الشباب نحو عدم الالتزام السياسي. وللاتجاهات الديموغرافية أيضًا تداعيات سياسية متناقضة. فعلى الرغم من الجهود التي بذلها النظام خلال العقد الماضي لتشجيع الولادات لمواجهة شيخوخة المجتمع، إلا أن معدل الولادة يستمر في الانخفاض. وفي حين أن معظم الشباب الإيرانيين يبتعدون عن قيم الثورة الإسلامية ويطعنون في المؤسسة الدينية المحافظة، فإن المسنين يميلون إلى تفضيل التغيير التدريجي والاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي على الاضطرابات الثورية.
وفقاً لعالم الاجتماع عباس كاظمي، فإن العديد من البالغين في منتصف العمر يتعاطفون مع جيل الشباب المشاركين في الاحتجاجات، غير أن التزاماتهم العائلية والمهنية تمنعهم من الانضمام إليهم. ويكمن مفتاح التغيير السياسي في إيران إلى حد كبير في القدرة على تعبئة ما يسميه حميد رضا جلائي بور بـ"الأغلبية الصامتة". وقدرها عالم الاجتماع الإيراني في مقال نشر في تموز (يوليو) 2023، بحوالي 70 في المائة من الإيرانيين. ولا تدعم هذه "الأغلبية الصامتة" السياسة القمعية للسلطة وتشارك الشباب تطلعاتهم المدنية. وفي الوقت نفسه، يختلف موقف أفرادها عن موقف الجماعات الراديكالية، وخاصة تلك الموجودة خارج إيران، التي تدعو إلى إسقاط النظام بالعنف. ولاحظ حميد رضا جلائي بور خلال مقابلة أن معظم المتظاهرين في العام 2022 كانوا من شباب الطبقة المتوسطة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاما. وظهر أن الجهود المبذولة لتحويل الاحتجاجات من حركة مدنية إلى حركة لتغيير النظام، بدعم من وسائل إعلام أجنبية، ليست لها فاعلية، حيث رفض الجزء الأكبر من المواطنين الانخراط في عمل ثوري عنيف.
تعتمد آفاق التغيير السياسي في إيران إلى حد كبير على القدرة على بناء تحالف شامل يضم قطاعات من السكان ذات وجهات نظر متنوعة، بل وحتى متناقضة. وكانت إحدى نقاط الضعف الملحوظة في موجة الاحتجاجات الأخيرة غياب قطاعات كبيرة من الفئات الاجتماعية والاقتصادية، لا سيما عمال الصناعات الكبيرة وقطاع الخدمات، الذين امتنعوا عن المشاركة في المظاهرات التي قادها بشكل رئيسي مراهقون وطلبة. ويتطلب تحدي استقرار النظام في إيران إنشاء ائتلاف وطني شامل. ويجب أن يكون هذا الائتلاف قادراً على توحيد مجموعات متنوعة، مثل العمال والمتقاعدين الذين يعطون الأولوية لتحسين الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع مجموعات أكثر سياسية، والتي تدافع عن الحريات السياسية والمدنية، مثل الطلاب.
بلد معقد ومتنوع
مثل المجتمعات البشرية الأخرى، تتكون إيران من مجموعة سكانية متنوعة تضم مؤمنين متدينين وعلمانيين. وتشمل مؤيدين ومنتقدين ومعارضين للنظام، وطلبة ليبراليين وشبابا مناصرا لخط متشدد مناهض للغرب، وطبقات وسطى حضرية تواقة إلى التغيير، وأخرى دنيا تقليدية قد تفضل الحفاظ على الوضع الراهن من دون اللجوء إلى الوسائل العنيفة والثورية. وتنطوي هذه الكوكبة المعقدة على العديد من الاختلافات في وجهات النظر السياسية، والتفسيرات الأيديولوجية، والقيم، والأولويات. يمكن لمواطن إيراني أن يصوم رمضان ويحيي ذكرى يوم كورش الكبير، ويعارض الحجاب الإلزامي، لكنه يعتبره في الوقت نفسه رمزًا دينيًا ووطنيًا ومجتمعيًا مهمًا. ويمكن أن يحتج إيرانيون على النظام ويحتفلوا بانتصار المنتخب الوطني لكرة القدم، وأن يعبروا عن رفضهم للمساعدات الإيرانية لسورية، وأن يعارضوا في الوقت نفسه العقوبات الأميركية. وقد يختلفون مع موقف النظام بشأن تدمير إسرائيل، لكنهم يعارضون أيضا سياسات الحكومة الإسرائيلية. وسوف يؤدي التحليل التبسيطي المفرط الذي يهمل تنوع المجتمع الإيراني إلى تحليلات خاطئة تجر في كثير من الأحيان إلى اعتماد استراتيجيات غير ناجحة.
 
*راز زيمت: باحث مشارك في معهد دراسات الأمن القومي (INSS) ومركز التحالف للدراسات الإيرانية في جامعة تل أبيب. ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.