الغد-عزيزة علي
في أمسية ثقافية قدمها منتدى الرواد الكبار، بعنوان "قصة ورؤيا"، قرأت المؤرخة الدكتورة هند أبو الشعر قصتها "امرأة من غزة تجر عربة"، وقدم فيها الناقد والشاعر الدكتور راشد عيسى رؤيا نقدية تحليلية للقصة.
الأمسية أدارتها المستشارة الثقافية للمنتدى القاصة سحر ملص، وحضرها جمهور من المهتمين بالشأن الثقافي إلى جانب مديرة المنتدى هيفاء البشير.
قالت هيفاء البشير: "إننا اليوم أمام هجمة شرسة من القتل والإبادة والتنكيل بشعبنا في غزة واقتراف جرائم لم يشهد لها التاريخ مثيلا، كل ذلك يحرك أعماق الإنسان للاحتجاج سواء بالقول، أو الفعل، أو الرسم، أو الكتابة، وكل ما نراه من مظاهرات واحتجاجات من الشعوب في العالم على ما يجري من جرائم بحق شعبنا الفلسطيني دليل على بشاعة هذه الحرب الشرسة".
وقالت أبو الشعر: "عندما يكون المكان والأحداث أكبر من كل شكل فني، يتوقف الكاتب أمام نفسه أولا، وأمام أدواته الفنية طويلا، ولأن أهالي غزة يحفرون تاريخنا اليوم بدمائهم وعظامهم وأشلائهم، فإننا نخجل من الحفر الفني بالحرف واللون وكل أشكال التعبير، ونقف بعجز مؤسف أمام هذا الحدث الأسطوري، هذه المشاعر استغرقتني منذ اليوم الأول من الطوفان الذي لم يتوقف عن التدفق في غزة، وكنت أفكر بعقل المؤرخة أولا، وبدموع إنسانة عربية تمزقها المشاهد التي لا مثيل لها في ذاكرتنا المليئة بالتهجير، والتدمير، ومحاولة محو الوجود، والهوية، وإحلال الآخر الدخيل.
وأضافت أبو الشعر، "عندما بدأت في الكتابة لم أختر شكل التعبير بوعي، فقد كانت المرأة الغزية التي تقود عربتها العتيقة بصلابة وعنف من المشاهد التي وصلتني على هاتفي، اعتقدت لوهلة أنني أمام آلهة كنعانية هبطت على الأرض فجأة، وكانت عربتها التي تصر على اجتياز الركام هي غزة كلها، كانت تحمل شيئا تستحث به الدابة على الركض بين الركام، ووسط جنون الطائرات المجنونة، والدبابات، لمحت وجه الابنة التي كانت تردد كلمة "يمه، يمه"، وهي تحاول التمسك بأجساد على الألواح الخشبية.
ونوهت أبو الشعر، إلى أنه "لا يحضرني الآن غير تطاير غطاء رأس المرأة مع الريح، ووجه الصغيرة الذي يضيع وسط تطاير خصلات شعرها مع رياح الخوف، ووحشية القتلة، وللحق فإنني لم أستطع أن أفكر بعقل المؤرخة، وبلحظات حفرت المشهد بأصابعي، لكنني بعد أن انتهيت من كتابة النص، أحسست بأنني لا أعرف أن كان ما كتبته قصة قصيرة كعادتي أم أنني تمردت على الشكل، وجئت بحالة هي مزيج بين القصة القصيرة وأشكال أخرى، فالقصة القصيرة تعجز عن احتواء هذا الذي نراه، ولا أظن أن آلاف الروايات والقصص والقصائد تستطيع أن تقدم هذا الطوفان".
وقالت: "كنت أريد رصد كل الزمن الحقيقي ومخالفة القواعد الفنية التي أعرفها، لأنني أرصد حياة عائلة هذه المرأة التي تحارب بجنون لتوصل عائلتها وسط الركام وجنون الغارات والدبابات القاتلة، وظفت الأسطورة لتساعدني في رصد الزمن، فقد جاء كبير الآلهة زيوس الذي يجر عربة الشمس في الأسطورة اليونانية، حيث تقود جياده عربة الشمس عند الفجر وتظل تسير في الأفق إلى أن تصل إلى المغيب وتسقط في البحر، وجعلته يتعاطف مع العائلة الغزية، وكأنه يدين العدوان البشع الذي يحدث على الأرض".
وأخيرا، فهذه العربة التي تقودها امرأة من غزة، وتجرها الدابة العجوز وسط ركام الحرب المجنونة، هي غزة كلها، تحمل الابن الجريح، والابن الشهيد، والابنة التي تتمسك بهما، وتنتهي القصة / الملحمة، بوصول العربة مع وصول عربة الشمس إلى لحظات المغيب، ولكن عربة المرأة الغزية تقف في مواجهة دبابة قاتلة، ولم يتبق منها غير وشاح المرأة الأبيض الذي يشبه وشاح السيدة العذراء ابنة فلسطين، وفي حين كانت القصة ترصد ارتفاع روح الشهيد إلى السماء، فإنها انتهت بارتفاع كل عناصر المشهد إلى السماء.
ثم قرأت القصة التي أشارت أبو الشعر إلى إنها "ملحمة"، جاء فيها "- توقفوا.. توقفوا.. دعوها تمر... دعوا العربة تمر.. توقفي أيتها الجياد المطهمة الجميلة، افسحي الطريق أمامها.. اسكتي أجراس الجياد المنعمة، واتركيها تمر بعظمة الموت، وهي تقود عربتها العتيقة بتهور وجنون، اتركيها تصرخ بصوت أم مكلومة، على الدابة الخائفة من صوت انفجارات طائرات القتلة، اتركيها تناشد الدابة المتعبة أن تسابق ريح الشاطئ، المتخم بأصوات الانفجارات والدمار، لتصل بأجساد أبنائها المسجاة على ألواح الخشب العتيق، المعتق بالدم المقدس، ينز من أجسادهم، اسمعي صوتها الهادر مع الموج، يناشدك بأن تركضي على الشوارع المهدمة بقنابل القتلة، لتنقذي الجريح المسجى على اللوح الخشبي، والذي تتمسك به شقيقته، وهي تصرخ: يمه..!! يمه.. كانت يد الصبية تشد على جسد شقيقها الجريح، ويدها الأخرى تشد على جسد شقيقها الشهيد على اللوح الخشبي قربه، تتطاير خصلات شعرها في كل اتجاه، وتصرخ بلا توقف: يمه .. يمه..!!".
من جانبه، قال الناقد د. راشد عيسى: "إن امرأة غزيّة تجر عربة"، التي كتبتها أبو الشعر أثناء الحرب الصهيونية الشرسة على غزة، وإثر مشاهدتها مناظر القتل والتدمير الوحشي وعنف الرغبة في إبادة الشعب الفلسطيني في غزة. وهي مشاهد تعكس أمرين متعاكسين، رغبة العدو في سحق الأهالي وقتل فكرة المقاومة، والأمر الثاني إرادة الشعب والمقاومين في الصمود الأسطوري من أجل هزيمة المعتدي والاستمرار في حب الحياة والتجذر في الأرض تمهيدا لطرد المحتلين القتلة من الديار".
وأضاف عيسى أن أبو الشعر التقطت مشهد الأم الغزية التي تقود عربة تجرها دابة، وعلى هذه العربة بعض الخضراوات من بقدونس ونعناع وبصل، وإلى جانب الخضراوات طفلة تقوم بدورين، الأول تفقد جسد المقاتل الجريح، والدور الثاني البكاء والتحسر على الفارس الشهيد الذي بجانبه. بمعنى أن فوق هذه العربة توجد مظاهر الحياة ومظاهر الموت معاً.
وتابع عيسى: "مع أن مظاهر الموت أقوى، إلا أن المرأة تنهر الدابة لتسرع في الركض داخل الأزقة المدمرة وبين هضاب ركام البيوت المهدمة غير عابئة بآلامها. لتصبح الدابة والخضراوات والعربة والجريح والشهيد والمرأة عناصر مقاومة وثبات في حين تستمر ابنة المرأة في تكرار ندائها لأمها: يمة.. يمة. وهو نداء استغاثة ودعاء وتعجب وخوف وألم سري مكتوم". الطفلة تستنجد بأمها وفي الوقت نفسه تسأل أمها في أعماق نفسها: ما الذي يجري يمة؟ الطفلة ذاهلة أمام جبروت الأم وتتعلم درسا مستقبليا تلقائيا في فن الصبر ومواجهة الموت.
ورأى عيسى أن مشاهدة الحدث الرئيس في القصة هو الأم التي تقود عربة تجرها دابة، وعلى هذه العربة خضراوات وجريح وشهيد وطفلة تصرخ يمكن تأمله على شاشة التلفزيون بسهولة. أو يمكن لكاتب آخر أن ينقله لنا بالتفاصيل فما الإضافة الإبداعية التي قدمتها الكاتبة إذن؟
وخلص عيسى إلى أن "الأدب المقاوم نوعان: النوع الأول، أدب وصفي واقعي مباشر يشعل الانفعال والحماسة الوقتية على غرار قول سميح القاسم في أثناء الانتفاضة الأولى: "تقدموا تقدموا أمامكم جهنم وخلفكم جهنم". وبذلك يصبح الأدب نوعا من الخطابة التي تؤجج المشاعر ولا تلبث المشاعر أن تهدأ وتستقر بمعنى أن ديمومة الأثر قصيرة.
والنوع الثاني، هو الأدب العظيم الذي يؤثث النص بالاستدعاءات التاريخية والمرجعيات الموروثة ويحفز النص على الخروج من مكانه المحدود إلى علاقته بالكون. لأن الأدب تعبير عن صلات الإنسان بالوجود الخارجي، أي وسيط بين واقع الذات وآفاق الحياة الواسعة، أي ربط الحلم الخاص بالواقع العام".