عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Aug-2025

اثنا عشر كيلومترًا*إسماعيل الشريف

 الدستور

«لم أستطع أن أصدق ما رأيته لقد شكرني، ثم مات- انطوني أغيلار.
كم شاهدنا من أفلام، وقرأنا في روايات، وسمعنا من قصص الواقع، عن بطلٍ يسلك طريقًا شاقًا محفوفًا بالفقر والانكسار والخذلان، باحثًا عن حلمٍ يتوق إلى تحقيقه. ورغم أن الطريق موحش، تملؤه الأشواك والجوع والبرد والرفض، فإنه يُصرّ على المضي قدمًا حتى يبلغ غايته. وفي النهاية، يحقق هدفه، فنغرق نحن في دموع التأثر والتفاعل، وكأننا نحن من بلغ الحلم لا هو.
لكن لا توجد قصة تضاهي قصة أمير.
سار اثني عشر كيلومترًا، يحمل حلمًا أبسط بكثير من كل الأحلام التي سمعنا عنها؛ لم يكن يبحث عن مجد أو ثروة، بل عن وجبة تنقذه من موتٍ جوعًا، أو تُطعم أهله الذين ينتظرونه في خيمة بالية، تعلّقوا بالحياة من خلال طفلٍ لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
نجح معظم أبطالنا في بلوغ أهدافهم، لكن أمير سقط قبل أن يصل. لم يمنحه هذا العالم البائس فرصة ليحيا كأيّ طفلٍ عادي!
سار أمير حافي القدمين، يرتدي أسمالًا بالية، تحت شمس حارقة، قاطعًا مسافة اثني عشر كيلومترًا، جائعًا عطِشًا. كانت عيناه تروي حكاية عامين من الإبادة الجماعية، شهد خلالهما أطفال غزة أهوالًا تعجز الكلمات عن وصفها.
وبحسب شهادة الجندي السابق أنطوني أغيلار، الذي خدم في القوات الخاصة الأميركية ثم تحوّل إلى مرتزق ضمن مشروع «مصائد الموت» المعروف باسم «مؤسسة غزة الإنسانية»، فقد استلم أمير حصته: كيسًا صغيرًا بحجم قبضة اليد يحتوي على العدس والأرز والدقيق. تناول طعامه، وابتسم، وقال للجندي بالإنجليزية: «Thank you»، ثم قبّل يده امتنانًا. ابتعد خطواتٍ قليلة  فاغتاله قنّاص صهيوني.
بكل هذه البساطة!
ظنّ أمير أن براءته ورقّته وطفولته ستشفع له عند المجرمين. فقد تعلّم في المدرسة حين كانت هناك مدارس   قوله تعالى: «وما جزاء الإحسان إلا الإحسان». لكنه لم يجد إلا الجحود، إذ ردّ عليه هذا العالم المجرم قائلًا: «أنت لا تستحق الحياة؛ مكانك تحت الأرض، لا فوقها. وسنأتي بطفلٍ آخر، أبيض البشرة، من روسيا أو بولندا أو أوكرانيا، ليأخذ أرضك بعد أن نسرق طفولتك.
قطعًا، ما يجري في غزة ليس حربًا؛ بل هو قتل أي بصيص من الأمل، مهما بدا صغيرًا أو تافهًا!
لم تكن تلك الرصاصة موجّهة إلى أمير وحده، بل كانت رسالة إلى كل طفلٍ في هذا العالم. رسالتها: لا شيء يمكن أن يحميك، وإن تمرّدت علينا، فمصيرك كمصير أمير وعشرات الآلاف غيره. لا شيء يردعنا.
وفي شهادة أخرى، يروي الجندي نفسه أنه اعترض على استهداف المدنيين العُزّل والجوعى، فتوجّه إلى قائده بالسؤال، لكن الرد جاء حاسمًا: «نفّذ تعليمات صاحب العمل.» فسأله: «ومن صاحب الشركة؟» فأجاب: «جيش ‹الدفاع› الإسرائيلي.» وهذا بلا شك يفسّر «مصائد الموت» تلك، التي تقف خلفها أيديولوجيا عنصرية بغيضة، تنظر إلى الأطفال كمشاريع مقاومة، وتراهم أفاعي وأعشابًا يجب جزّها.
وإن كانت كل القصص التي قرأناها وسمعنا عنها تحكي عن تحدٍّ من أجل الحياة، فإن مسافات غزة تظلّ حكاية موتٍ من أجل لقمة طعام.
أيّ بشاعةٍ هذه!