عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Jun-2021

في قبيلتنا روائية .. بديا بلدي* أحمد سلامة
عمون 
كانت أول مرة اقرأ فيها أدباً نسويا تتداخل فيه السيرة مع العمل الروائي لسحر خليفة في روايتها (لم نعد جواري لكم)، كان ذلك ربما في اواخر السبعينيات في القرن الماضي، ولقد مرت سحر في تلك الملحمة على تجربة روائية فردت فيها اختلاط العمل الثوري حين كانت ( فتح ثورة ) و كانت سحر احدى كوادر القطاع الغربي و تراث مدينة نابلس حتى ادركت فيها بعض بير زيت و بعض رام الله ثم كانت اول سيرة نسوية قرأتها في حياتي لعنبرة اسلام التي كانت مثيلة هدى شعرواي في بلاد الشام حيث كانت اول من خلعت غطاء الرأس و الوجه في بلاد الشام سنة 1910 م و خلدت في مذكراتها تلك سيرة مدهشة ربطت فيها بين بيروت و القاهرة و القدس التي اضحت مقاما ابديا لها حين تزوجت المربي الفلسطيني الفذ احمد سامح الخالدي و بعدها توقفتُ عند التجربة الروائية البرطانية الاستثنائية في ابداعها ايرس ميردوخ في روايتها (البحر البحر) و كانت من اهم نقاط الارتكاز المعرفي في حياتي لمعنى العلاقات الخطرة بين البشر التي تربطهم صلة القربى ، وبعدها تسنى لي قراءة رواية (امراءة صالحة) للكاتبة الامريكية دانييل استيل التي اوصلتها كتابتها للرواية الى منتهى الشهرة . تلك في حدود ما اتخيل انني اطلعت عليه من ادب المرأة و اختتمت هذه العلاقة في الكتاب الانثوي لشابة فلسطينية بحرينية مبدعة في اثناء اقامتي في البحرين للآنسة رنوة العصمي في روايتها التي راحت بعيدا في تحليل النفس البشرية لارتباط الأنفس بالأمكنة، لقد كانت روايتها (الزيارة ) احدى اهم محطات الإضاءة على تأثير المكان و احساس ساكنه اما بالتفوق و اما بالدونية و كان عقلي دوما يستبد به لانحيازٍ الى الروح الإبداعية للمرأة لكني بصراحة لم يخطر على بالي أن امنية عندي ستتحقق و هي أن ادرك في حياتي ان أمراءة من دمي و روحي سأقراء لها رواية قبل ان امضي و كنت دائم الاستعداد لتلقي الجديد في مجال الفن و الأدب لهذا المحراب الذي يملؤه الونس المسمى الأدب النسوي.
 
كانت تجربتنا مع فاطمة المرنيسي في الحاحها ببديات وعينا على اطلاق نور جريء في منهج التفكير التديني المتصل بالاسلام، قد اثار حفيظة بعضنا و ارضى وعي بعضنا لكنه ظل نقطة لا تفارق العقول في رصدها المبكر بجسارة لغربلة الأحاديث النبوية، و لم يدر في خلدي يوما ان يسحرني كتاب امراءة من دمي ومن نسبي وهي بمثابة ابنة عمي او انا عمها لكنني احب ان اطلق عليها منذ الآن صفة (الاستاذة) لقد سلمني ابن اخي المحامي الاستاذ معاوية سلامة هدية خلتها أعذب هدية ظفرتُ بها على مدار العمر كله و هي رواية او سيرة ذاتية بعنوان بديا بلدي للأستاذة اسماء سلامة و مشروع الكتاب هذا ، الهدية الثمينة عندي ، لم استطع بعد ان اغرقتني علاقتي بهذا النور الذي شب بين يدي فجأة تأريخا و تأويلا و تعشيقاً لمسقط الرأس مع أهله بديا و أهله و هم أهلي. إن الكُتاب عادة إما يغارون من بعضهم او يتحاسدون او يتكاملون و إما انهم يذهلون بعضهم بعضا بإذعانٍ حميم لدرجة الإبداع التي يدركها الآخر.
 
.... بديا بلدي، ترنيمةٌ للأستاذة اسماء كتاب صدر عن منشورات اليمامة في المكان الذي آوى اليه الحبيب المصطفى هدية الهية له صلاوات الله عليه و سلامه ليعوضه عن انكار و جحود الأهل فكانت القدس موئل الاسراء و مصدر الترنيمة البداوية او لغويا لو قلنا البدياوية ربما ان تكون النسبة اكثر دفئا للأستاذة اسماء. لقد قضيت الأيام الثلاثة الماضية وقد تداخلت بدون ادنى مبالغة دموعي و بكائي مع هذه المرثية و هذه البكائية للاستاذة اسماء التي جعلت من قدرتها التي لم اعثر على قبلها في شد نقطة الدم الى نقطة الدمع فصنعت منهما نهر فرح و أمل. بديا بلدة أسموها اليوم مدينة و هي عندي تلك البلدة الوادعة التي قضيت فيها اول سبعة عشر عاما من حياتي كانت هي العتبة الأولى و البئر الأولى و الرشفة الأولى و الدمعة الأولى و ظلت في داخلي على حالها حتى جاءت صورتها الجديدة عبر ريشة الأستاذة أسماء سلامة، لست أدري ما الذي سيصدر عني نقدا ادبيا او إطراءً انسانيا او مدحا لإبداعٍ او مباهاة بصلة قربى أضحت صلة للقرب فالحروف تورث حباً و انتماء أكثر بكثير من خلايا الدم، الحروف تخلع بوابات القلب حين تكون الحروف نجمات تتلئلئ فيَّحن النظر اليها ليلا و تتشبث الذاكرة باسترجاعها نهارا، ربما إن كل ذلك و غيره اكثر ما سأكتبه كردة فعل حين انتهيت من سفر بديا بلدي للأستاذة اسماء.
 
لعل من خلد و من أبَد و من أبرز مصطلح (عبقرية المكان) المبدع المصري جمال حمدان، لكن أسماء الأستاذة قد ادخلت في روع معرفتي مصطلحا جديدا عن بديا هو (المكان عبقري) لقد استطاعت هذه الفنانة القادمة ان تحيل يتمها الى قصة فرح، و افتقادها لشريكها في مطلع حياتهما الزوجية الى دراما خلاقة من الحوافز التي جعلت منها هي ترنيمة البلد. ومن الجائز ان تكون أسماء الأستاذة أول من تنبه الى الظلال و البريق للمكان حين تداهم العبقرية ذلك المكان فيتحول فيه القبر الى موسيقى و وفاة الوالد الى رقصة زوربا و تتابع الاعتقالات الليلية لشباب الحمولة بدأ من الكوماندوز مصطفى و انتهاء بمن ظفر بأخطر شخص باع نفسه لشيطان الاحتلال فقتله و مضى الى المؤبد طوال حياته. كل كاتب له مصطلحه و كل كاتب له ما يلهمه جملة او موقفا او حدثا لكن أسماء الاستاذة قد صنعت باقة من حوادثٍ نقشتها بدمعها فأنتجت سجادة بدياوية ليس في اصفهان او قم ولا طهران ولا بورصة التركية من يتفوق عليها في التفنن بالنقش على خد الوجع، و في ظني أن جملة صكتها في مؤلفها الفذ بديا بلدي قد جعلت مني حين قرأتها انسانا آخر حين وصفت اسماء الأستاذة لحظة دخول جندِ يهود الى منزل جدها في ليل تمهديا لإخلائه بغية هدمه في دقائق و كان هذا المنزل هو منزل أحد مشايخنا و زعاماتنا و أبطالنا الوطنيين حين وقفت أسماء على اللحظة التي دخل فيها ذلك العميل ذو القلب الأسود و وقفت على عينيه التي تقدحان شرراً و حقدا و مرضا ووجه حديثه الى الجدة ام عيسى، بنت العود ابو رفعت، مسقطا قرار الهدم عليها بالقول " والله لأهدها!"
 
وردت الجدة ببصقة في وجهه قبل ان تتحول تلك السيدة الرقيقة الى جبل من صمت لم يخترقه احد حتى اسعدها الله بالوفاة و راح منزلها الى ركام.
 
كان ذلك المشهد الذي استلته اسماء الاستاذة من رحم معاناة الانتفاضة الأولى قد اوجعني و تحسرت اول مرة انني لم اكن هناك طليقا في سجون الاحتلال.
 
لا يستقيم اي توقف او اية قراءة لملحمة بديا بلدي دون التعمق لظلال الشخصية التي جعلت منها اسماء الاستاذة خيمة او غيمة او شجرة وارفة الظلال هي الأم (السيدة زهر) التي جعلت منها اسماء عامل التحريك المدوي الذي صنع من هذه الأسرة و هي التي حُرمت من الأب مبكرا صورة من صور الفرح و العزة و التفوق. إن صورة الأم التي خلدها مكسيم كورجي في رائعته عن الأم و اضحت هي المعيار لكل ما يكتب عن الأم لا أبالغ ولا أجانب الصواب و الحقيقة ان ادعيت أن اسماء الاستاذة قد خلقت من صورة امها اما و حلما لكل من يتمنى ان تكون أمه مصدر الهام في حياته و اول دفئ يحبحبه و آخر ابتسامة يراها قد ان يمضي الى جوار ربه. إن هذه المكافِحة الطبقية و المناضِلة الوطنية الأم التي ساحت في الغربة في الكويت لسنين ثم عادت ادراجها لتعيش في جو قرية او بلدة تعاف الغريب و تخشاه و لا تُقبل عليه و كانوا ينادونها سرا و علانية ( بالسنيرية) نسبة الى القرية التي تجاور بديا و تعانقها في اصلها الارآمي و أم اسماء او ام مصطفى او ام اروى الى آخر الحلقة الذهبية في هذه الأسرة هي من سنيريا انتقلت من برندة سنيريا الى غرفة النوم في بديا لكن بديا لا تحب الغريب و لا شجر البلوط و لا تحب الضجيج ، بديا خُلقت كأنها لأهلها وحسب لذلك أضحت مثل كل البلدات و المدن و الأوطان التي تتشدد في هويتها أضحى أهلها الأصليون أقلية فيها ومن ثلاثين ألف نسمة في النهار من يشغلون فناءها اليوم لا يشكل أهل البلدة الأصليين أكثر من عشرة الآف شخص و استطاعت أسماء الاستاذة ان تروي ظمأ امومتها عبر أمها و لعلي لا أخالف القدر إن قلت أن محنتها في ان تترمل مبكرا كانت كأنه اختيار لها لشدة تعلقها بأمها وكأن القدر قد كافأها لتكون حياتها صورة مما رأته حبا في حياة أمها. لا يستقيم التحليل ولا تصلح أي قراءة لاسطورة بديا بلدي قبل تناول الطريقة الملهمة و الساحرة لوصف المقبرة هل رأيت كيف يستطيع الأنسان ان يصنع من القبر روحا تلهمه الصبر و الفرح و ان يكون القبر منزلا أو حديقة حين تشرق الشمس يرى فيها المحب لهذا القبر باقة من نرجس تفتحت للتو و سبقتها رائحتها و من القبر الى المدارس فالشوارع فالدكانين فالحارات فطقس الأعراس و طقس موسم الحصاد و قطاف الزيتون و فراق الاحبة و فنون الطبخ و الرحلة الدهرية الحزينة التي يجللها احتلال اليهود لفلسطين البغيض كل ذلك قد رسمته اسماء الاستاذة في سِفرها (بديا بلدي) حين كانت تنتقل بنا في رحلتها اليومية لتلتحق بوظيفتها من بديا الى رام الله يوميا.
 
بديا بلدي
و اسماء الاستاذة ابنة عمي قد صنعت لبديا تاريخا يليق بها و لإن كانت هي قد تأثرت في عنوان و كتاب رسول حمزاتوف بديا بلدي فإنني أقر اليوم لهذه النشمية الأولى من آل سلامة التي طرقت باب الرواية و مرت بحبٍ يحسده عليها كل من قرأ كتابها للوفاء للأخوة في رسمها اللوحة السريالية للعلاقة التي ربطتها مع شقيقتها أروى و شقيقها مصطفى و لإن كان انحيازي لما كتبته عن أروى هو الانحياز المطلق لأنها حصتي في هذه العائلة التي كانت امي تصفها دوما (الفروع العالية) فهي زوجة ولدي معاوية الدكتورة الصيدلانية التي تشرفت بمعرفتها ليس حين زرتها في منزلها قبل سنتين ولكنني عرفت مناقبيتها و روحها الدفاقة المعطاءة حين قرأت بديا بلدي.
 
أخيرا، في ظل زمنٍ يستباح فيه الفناء و السماء بتعبيرات عشائرية و بعض منا أضحى يؤثر تقديم القبيلة على الدولة و أضحت الأنا كلها في قبيلة فإنني أنشر هذا التقديم و التهنئة لابنة قبيلتي الأستاذة أسماء لأكرراليقين من جديد أن القبائل إن استندت على وحدة الحروف فإن دورها يكون هو الأبقى من أن تكون منحازة لرابطة الدم فقط، الدم هو أول الوعي لكن الحروف هي أول الحياة. شكراً لأسماء التي اضافت لصلة قرابتنا صلة قرب، وإننا بانتظار سيل ابداعها كاتبة مقال و كاتبة رواية ومن شابه عمه فما ظلم. رسمت صورة نورانية للعم مجاهد و إن كان عنوان روايتها بديا بلدي فإنني أختم هذه المقالة نعم و مجاهد ابن عمي.