"مش مشكلتي".. حين يتوارى الإحساس بالآخر خلف جدار اللامبالاة
الغد-ربى الرياحي
لم تعد اللامبالاة حالة نفسية عابرة، بل غدت تتغذى على الإيقاع السريع وضغوط المعيشة وعدم الرغبة بالانخراط في هموم الآخرين.
عبارة "مش مشكلتي" تحولت إلى شعار يومي يبرر الانسحاب من المسؤولية، ويتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية في مواقف صغيرة كرؤية طفل يتعرض للتنمر في الشارع فلا يتدخل أحد، أو منشور على مواقع التواصل يصرخ بألم حقيقي فيمر بين آلاف التعليقات الصامتة.
شيئا فشيئا يعتاد الشخص ألا يشعر ألا يتدخل وألا يتأثر، قد يبرر لنفسه بأنه مشغول وبأن الحياة قاسية بما يكفي وبأن التدخل لا يغير شيئا. لكن الحقيقة أن هذا الانسحاب من التفاعل هو ما يضعف نسيج المجتمع.
اللامبالاة كأسلوب حياة
خليل ( 35 عاما) يقول في البداية جملة "مش مشكلتي كنا قد نمررها مزاحا ثم تحولت إلى أسلوب حياة صرنا نراها في الشوارع في البيوت وفي اماكن العمل.
ويضيف؛ "كل شخص يحمل همه فقط يمر بجانب الألم وكأنه لا يراه. ففي زمن الضجيج والسرعة لم يعد أحد يتوقف ليسمع أو يرى أو يشعر كل غارق في عالمه الصغير، متمسك بعبارة مش مشكلتي وكأنها طوق نجاة من المسؤوليات لكنها في الحقيقة حبل خفي يخنق روح التضامن".
وتتفق معه سلام (29 عاما) مؤكدة ان اللامبالاة تسللت إلى علاقاتنا بالآخر؛ "صديق لا يسأل، أخ لا ينتبه، وزميل لا يبادر"، ايضا أصبحت العبارات الباردة مثل "ما دخلني، خلص عادي، مش فارقة، هي اللغة الجديدة".
وتضيف؛ "في الوقت الذي تتسارع فيه الأخبار السيئة وتكثر الهموم يلجأ كثيرون إلى اللامبالاة كآلية دفاع نفسي. فهناك من يتفاعل مع مأساة في منشور ثم يواصل يومه وكأن شيئا لم يكن"، مشيرة إلى أن القضايا الكبرى تحولت إلى محتوى مؤقت والمشاعر إلى ردود فعل لحظية هكذا صرنا في عالم يشاهد الألم دون أن يشعر به.
إحباطات حياتية وفقدان للثقة
بدوره يبين الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان أن المجتمع شهد تنامي ظاهرة اللامبالاة والسلبية بين الأفراد. حيث بات العديد من الناس يعزفون عن المشاركة الفعالة في القضايا الحياتية، سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو حتى السياسي.
هذه الظاهرة لا تقتصر على فئة معينة، بل تمتد إلى مختلف الطبقات والمستويات الثقافية، مما يثير تساؤلات حول أسبابها وتداعياتها على مستقبل المجتمع. وانتشار هذه الظاهرة يعود إلى عدة عوامل منها الإحباط وفقدان الثقة، ووفق سرحان.
إلى ذلك، يزداد الأمر مع الضغوط النفسية والمعيشية، وتزايد الأعباء الحياتية، حيث نسمع أحيانا من يقول: "إن هذا الأمر لا يعنيني أو أن هذه القضية سيان عندي، أو لا يهمني هذا أو ذاك الأمر، أو دعوني وشأني فليس لي علاقة بأي أمر" . ويرى سرحان ان اللامبالاة حالة نفسية تعني عدم التأثر بالمواقف التي تثير الاهتمام وفقدان الشعور والانفعال. وتجعل الشخص يتصرف بلا اهتمام في أمور حياته والأحداث العامة.
وغالبا ما تتصف الشخصية اللامبالية ببرودها وغياب شعورها بالمسؤولية. وأحيانا قد تكون اللامبالاة مرحلة مؤقتة ناتجة عن تراكم الهموم والمشاكل، وأحيانا أخرى قد تكون دائمة عند الشخص تلازمه مدى الحياة، بحسب سرحان.
وغالبا فإن الشخصيات غير المبالية تكون غير محبوبة ومنبوذة من الآخرين.
ويشير سرحان الى ان اللامبالاة لها وجوه عدة، فهي قد تكون في التعامل بين الزوجين، او بين الآباء والأبناء، ويعني هذا وجود مشكلات بين الطرفين. ايضا قد تكون مع زملاء العمل او مع الأقارب، وقد يكون البعض لا مبال في جميع تعاملاته وأمور حياته.
التخبط وعدم الاكتراث بالآخر
الى ذلك؛ قد لا يكون الشخص مباليا بدراسته او عمله او صحته او علاقاته الاجتماعية، وهذا يضاعف من الخطر على الشخص نفسه وغيره.
ويمكن لللامبالاة أن تمتد لتشمل اللامبالاة تجاه القضايا العامة والاجتماعية وقضايا الوطن والأمة.
ويبين سرحان ان الخطورة تكمن في ان اللامبالاة ينتج عنها أضرار كثيرة، كالضياع والتخبط وعدم الاكتراث والتفاعل مع كل ما يحدث مع الشخص
وقد تؤدي اللامبالاة والسلبية إلى انعكاسات خطيرة على المجتمع مثل تراجع الإحساس بالمسئولية، وضعف العمل التطوعي والمبادرات المجتمعية، وزيادة معدلات الفساد والتجاوزات.
كما ان اللامبالاة والسلبية ليست مجرد سلوكيات فردية، بل هي ظواهر قد تزعزع استقرار المجتمعات إذا لم يتم التصدي لها.
إن سمة السلبية واللامبالاة يترتب عليها العديد من التأثيرات غير المرغوب فيها منها: ابتعاد الآخرين عن الشخص السلبي باعتباره يتهرب من أي مسؤولية.
واللامبالاة تشكل بيئة مثالية للضعف والسطحية والتفاهة حيث تغيب الاستجابة لمتطلبات الواقع والتحديات التي تواجهه المجتمع وتؤدي الى غياب التفاعل المنتج مع القضايا المهمة، سواء كانت شخصية أو عامة، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلات والأزمات.
ويرى أن عدم التعامل مع المشكلات في الوقت المناسب يساهم في تضخمها وتحولها إلى أزمات كبيرة يصعب حلها. وتسبب اللامبالاة جفاءً وضعفا في العلاقات بين الناس، حيث يشعر الطرف الآخر بالإهمال مما يؤدي إلى تفكك العلاقات وفقدان الثقة. وضعف الإنتاجية في العمل.
ضعف في التماسك الاجتماعي
ومن الآثار السلبية الأخرى للامبالاة مع الآخرين؛
انهيار القيم حيث يضعف التماسك الاجتماعي، وتتراجع المشاركة المجتمعية في الأنشطة العامة والأعمال التطوعية، والاستفادة من الطاقات مما يحد من تطور المجتمع ونهضته.
هذه الآثار السلبية تجعل من اللامبالاة خطرا يهدد المجتمعات والأفراد على حد سواء.
ويؤكد سرحان على ان ما يساهم في مساعدة الشخص على التخلص من اللامبالاة أن يدرك قيمته وأهميته وقدراته وما يميزه عن غيره والابتعاد عن الكسل والسلبية أو الاستسلام للمشاعر السلبية وكذلك مصاحبة الأشخاص الإيجابيين.
ولمواجهة سلوك اللامبالاة، لا بد من تضافر جهود المجتمع بأكمله، وذلك من خلال تعزيز ثقافة تحمل المسؤولية والمواطنة والانتماء وأداء الواجبات.
وترى الاستشارية النفسية الأسرية والتربوية حنين البطوش أن اللامبالاة ليست مجرد سلوك سطحي، بل هي نتاج مركب لعوامل نفسية واجتماعية متعددة تتداخل لتشكّل موقف "مش مشكلتي"، فهي تنبع من الإحباط وفقدان الثقة واليأس الناتج عن تراكم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، والإرهاق العاطفي المستمر، والانغماس في العالم الافتراضي الذي يعزز العزلة والانفصال عن الواقع.
الخوف من تحمل المسؤولية
كما تلعب الصدمات النفسية المتكررة والتشوهات المعرفية، مثل فقدان الصورة المثالية عن الآخرين والمجتمع، دورًا في إيجاد انسحاب وجداني يتخذ اللامبالاة قناعًا له، بينما يسهم ضعف الحافز والطاقة في فقدان الدافع للتفاعل أو المبادرة، لتصبح اللامبالاة أحيانًا عرضًا لحالات أعمق مثل الاكتئاب أو القلق أو الانطواء الاجتماعي، وفق البطوش.
وتلعب عوامل أخرى مثل الخوف من المسؤولية أو الفشل، وضعف الانتماء والهوية الجماعية، والتطبيع الاجتماعي مع الانسحاب، والنزعة الفردانية المفرطة، والافتقار إلى نماذج إيجابية ملهمة، دورًا في ترسيخ هذا السلوك، بحسب البطوش، إذ يختار الفرد الحياد كآلية أمان نفسي، ويضع اهتمامه الذاتي فوق المسؤولية الاجتماعية.
وتنوه البطوش انه بهذا المعنى، تصبح اللامبالاة مزيجًا من الاستنزاف النفسي والانسحاب الدفاعي، ليست تعبيرًا عن أنانية أو قسوة، بل محاولة لا واعية للحفاظ على التوازن الداخلي وحماية النفس من الألم المتكرر.
الصدمات المستمرة والإحباطات تغذي اليأس المتعلَّم والتخدّر العاطفي، حيث يفقد الفرد إحساسه بالقدرة على التأثير ويتحول الانفعال الطبيعي إلى خدر وجداني، مما يعمّق الانسحاب ويضعف الاهتمام بالآخرين، ومع انهيار المعتقدات الأساسية عن العالم والثقة بالآخرين، يصبح الفرد أكثر عزلة، ويختار اللامبالاة كخيار آمن لتجنب المزيد من الخسارات النفسية.
الى ذلك تؤكد البطوش ان الثقافة النفسية وأساليب التربية تلعب دورًا محوريًا في مواجهة هذا النمط أو ترسيخه، فالفرد الواعي نفسيًا قادر على تسمية مشاعره وإدارتها، وطلب الدعم دون وصم، وفهم أن اللامبالاة ليست ضعفًا شخصيًا بل مؤشر على إنهاك يحتاج إلى معالجة، بينما التربية القائمة على القمع أو السخرية من المشاعر تزرع الانسحاب والخدر العاطفي منذ الطفولة.
في حين أن التربية الداعمة تعزز المرونة النفسية، وتعلم التعبير عن الذات، وتوازن بين تحمل المسؤولية وحماية النفس، لتصبح بمثابة مناعة وجدانية تحمي الفرد من الانطفاء وتتيح له التفاعل بوعي مع محيطه.
منصات التواصل والانسحاب العاطفي
وتتابع البطوش بأن اللامبالاة تتسبب أيضًا بالاكتئاب المقنّع، حيث تمثل أحد أبرز وجوهه، إذ يخفي الفرد وراءها الحزن واليأس الداخلي، فتظهر سلوكيات الانسحاب والخدر العاطفي وفقدان المتعة والاهتمام وكأنها كسل أو عدم اكتراث، بينما هي في واقعها صرخة صامتة للنجدة النفسية، أحيانًا مصحوبة بالنشاط الزائد أو الإدمان السلوكي هروبًا من مواجهة الذات.
ويتداخل الانغماس في الذات والاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي لتغذية الانفصال العاطفي، فتتحول التفاعلات إلى ردود سطحية، ويُضعف الاهتمام بالقضايا العامة.
بينما يصبح معيار الاهتمام وفقا لما تقوله البطوش، قائمًا على تأثير الأحداث على حياة الفرد الشخصية فقط، وعندما يقترن هذا بانعدام الثقة بالمؤسسات والمجتمع، يتولد شعور باليأس المتعلَّم، ويصبح شعار "مش مشكلتي"، ترجمة صامتة لعدم الجدوى من المشاركة، ليظل الفرد محاصرًا بين الانسحاب الدفاعي واللامبالاة، حتى تبدأ رحلة استعادة الانتماء والمسؤولية عبر إعادة بناء الفعالية الذاتية، والمشاركة.