الأول نيوز – مقولة أطلقها الفيلسوف الألمانيّ فيورباخ وهي مقولة نكتشف أبعادها يومًا بعد يوم. فالإنسان يزداد جوعًا مع تطوُّر وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي جعلت العالم كلَّه بمثابة قرية صغيرة، قرَّبت المسافات، وسرَّعت الأخبار والاتّصالات، ووسَّعت باب الثقافة والعلم والانفتاح على الآخَر.
في صغرنا، كنَّا نلهو بلعبة “الغمّيضة” أو “الكلَّة” أو ورق الشدَّة وكنَّا أسعدَ الناس. أمّا اليوم فعند صغارنا غرفة مليئة بالألعاب، بالإضافة إلى الألعاب الموجودة على الألواح الإلكترونيَّة والتلفونات الذكيَّة، ولا نسمع منهم سوى كلمة: أنا ضجران.
في فتوَّتنا وشبابنا، كنَّا نلعب بالطابة أو نركب الدرّاجات الهوائيَّة صيفًا، أو نلهو بالألعاب الفكريَّة شتاءً (مونوبّولي والألغاز وسواها) أو نلتهي بقراءة الكتب البوليسيَّة أو الأدبيَّة أو الروايات العالميَّة، وما كنَّا نشعر بالتعب أو الضجر أو الملل. أمّا اليوم، ومع الوسائل الإلكترونيَّة الكثيرة المتاحة أمام شبيبتنا، لا نسمعهم يقولون سوى كلمة: أنا ضجران.
لو سعى إنسان اليوم إلى الثقافة العامَّة والمتنوِّعة، لفتح مئة باب وباب؛ ولو أراد اللعب لوجد آلاف الألعاب المسلّية؛ وإن رغب في حضور فيلم لظهرت أمامه آلاف الأفلام؛ وكلُّها على صفحات الإنترنيت الكثيرة. وبالرغم من ذلك نسمعه يردِّد: أنا ضجران.
وانفتح عالم اليوم بعضه على بعض، فتجد مثلاً على مواقع الإنترنيت الكثير من الفيديوهات تعلِّم فنَّ الطبخ الفرنسيّ أو الإيطاليّ وسواهما، وبالرغم من ازدياد عدد الطبخات والحلويات نسمع الكلام ذاته: أتمنَّى أن آكل طبخة أو حلوى جديدة.
بقدر ازدياد الحاجيَّات التي يُستغنى عنها، وبقدر توافر الوسائل المسلّية التي لا يمكنها أن تملأ الفراغ الداخليّ، بقدر ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى المزيد والمزيد ولا يرتوي ولا يشبع.
الإنسان كائن جائع، ونهمه لا نهاية له. فالغنيّ لا يشبع من جمع المال بل يبحث عن زيادة أرباحه. والفقير يجمع حاجيَّات لا معنى لها ويكدِّسها في زوايا بيته علَّه يستفيد منها يومًا من الأيَّام. يرغب الولد في الحصول على مزيد من الألعاب التي يضجر منها بعد فترة وجيزة، والشابُّ يبحث عن أمور جديدة للتسلية وتمضية الوقت وما أن يجدهاحتَّى يبدأ بالبحث عن غيرها…
الإنسان كائن جائع لأنَّه يفتِّش على أمور آنيَّة لا تقدِّم له مياهًا تروي ظمأ، ولا طعامًا يشبع جوعًا، ولا أعمالاً تكفي حاجة. هو يركض وراء الأمور الزائلة ولا يبحث عن الجوهر والأساسيّ.
عالم اليوم أضاع “البوصلة” وأضاع معها الهدف الرئيسيّ الذي يبحث عنه. أراد عالم اليوم أن يبني له “برج بابل” جديدًا علَّه يرتاح من إله نصَّب نفسه خالقًا ومخلِّصًا. فسعى إلى بناء دُول “علمانيَّة” بعيدة عن الله وعبادته. أنكر وجود الله ونصَّب نفسه إلهًا، يعمل ما يشاء، حتَّى توصَّل إلى اختراع بشر من آلات متحرِّكة؛ بل تجاسر مؤخَّرًا أن يبتكر وباءً قاتلاً للحدِّ من التضخُّم السكّانيّ، جاعلاً في يده الحياة والموت، الخير والشرّ…
فسقط وكان سقوطه عظيمًا!…