الغد-عزيزة علي
أعادت دار العائدون للنشر والتوزيع – عمان، طباعة كتاب "رعشة المأساة: دراسات في أدب غسان كنفاني"، للناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف، وقد صدر الكتاب لأول مرة في دار منارات – عمان (1985).
الطبعة الجديدة تم تحريرها وتنقيحها، من قبل دار العائدون لتعيد إلى الواجهة هذه الدراسة المتميزة للناقد الذي رحل عن عالمنا قبل أحد عشر عامًا.
الكتاب جاء في جزأين الأول يتحدث عن "التراجيديا و(رجال في الشمس) (ما تبقى لكم)، والتقابل المتلاحم، (أم سعد) والتفكيك البنائي، (عائد إلى حيفا)، المجزوءات، ثم خاتمة"، فيما يتناول الجزء الثاني "ما التراجيديا؟، ثم ماذا عن اللغة؟".
وفي الجزء الأول يتحدث المؤلف عن فكرة الكتاب فيقول: "هو مجموعة من الأسئلة طرحتها على نفسي على إثر انتهائي من قراءة جملة من النقود وجهت إلى آثار الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، ولسوف أكتفي هنا بعرض أهم هذه الأسئلة: لماذا لم تعلن أي من تلك النقود أن (أم سعد)، ليست رواية، وأن (عائد إلى حيفا)، لا تعدو كونها قصة قصيرة، لماذا لم تكتشف هذه الدراسات أن غسان قد وضع حجر الأساس في صرح الأدب التراجيدي في ثقافتنا الناهضة، وذلك حين كتب (رجال في الشمس).
ولماذا لم تتعامل النقود الموجهة إلى تراث غسان مع البناء الفني لأعماله الأدبية؟ لماذا لم تبحث في التقنية المدهشة التي استعملها غسان في (ما تبقى لكم)، ولا سيما من حيث العلاقة بين تناسج هذه الرواية وبين مضمونها؟ والأهم من ذلك كله، ما هي النواة المركزية في البناء النفساني لأبطال غسان (عقدة الذنب)؟ ما الذي أثبته غسان حين كتب (رجال في الشمس)، أعني ما هو الاكتشاف الفني الكبير الذي فتح الأنظار عليه؟.
وأنا أجيب الآن عن هذا السؤال الأخير. لقد أثبت غسان - تطبيقيا - أن الموضوع الفلسطيني لا يمكن النهوض به إلى أعلى ذروة ممكنة، ولا يمكن دفعه إلى أقصى مدى يستطيع (الموضوع)، أن يبلغه، إلا من خلال التراجيديا. وهكذا كانت (رجال في الشمس)، أعظم عمل روائي كتب على الإطلاق في موضوعات فلسطين".
ويرى اليوسف أن أهمية غسان كنفاني لا تكمن في أنه يرسم الروح في هوانه وسقوطه أي يؤرخ نفسانيا لتطور هذا الروح في متاهة ترديه، فقط، بل تأتي أهميته من أنه أول كاتب عربي استطاع أن ينقل الكارثة الفلسطينية إلى حيز الرواية التي يتحقق لها تكامل الشروط الفنية، وفي أنه كان أول من قدم فهما تطبيقيا عميقا للتراجيديا، مبينا أن جوهر الرواية لدي كنفاني-والأقصوصة-أنها تخضع التاريخ للمحاكمة وأنها تدينه، لا كعدوان فحسب، بل وكخنوع، وتدينه في طرفيه النافي والمنفى. ومن هنا كان التراجيدي ذا طبيعة تاريخية في نظر كنفاني، وكانت الألياف المؤسسة للرواية تاريخية هي الأخرى.
ويوضح المؤلف أن كنفاني لا يدين برهة النفي وحدها، بل كذلك برهة الانتفاء "وهو هنا يدين البرهة قبل تلك، وبأشد مما يدين تلك"، فقد سيطرت عقدة الذنب على معظم أبطاله بكل وضوح. قد كان لإدانة لحظة الانتفاء، وهي نقطة مضمونية، أثرها على الجانب الفني للعمل، إذ بفضلها استطاع البطل الكنفاني أن ينجز مصيره الضروري بصورة عفوية، تماما كما لو أنه يملك غريزة يمكن تسميتها بغريزة التاريخ التي تقوده إلى السقوط وإما إلى الصعود.
وهذا يعني أن أبطاله يصدرون صدورا منطيقا عن ضروراتهم التاريخية. وبسبب من هذا الصدور عن الضروري، عن الوجود في مباشريته، فقد جاء بنيان الرواية باستثناء "ما تبقى لكم"، بعيدا عن التناسج التجريدي الذي لا يتيح لنا فرصة القبض على جدلية العام والخاص بسهولة.
ومن هنا جاءت الأحداث الدرامية نتاجا لفعل قوى تتمتع بميزة الحسم التاريخي، فالقوى العائقة لحركة وتنقل الفلسطينيين هي المسؤولة -أخيرا لا أولا- عن كارثة "الخزان"، والهزيمة التي مني بها الفلسطينيون عام الكارثة، قد خلقت فيهم نوعا من اللافاعلية يتحمل المسؤولية الكبرى عن الكارثة "الخزان".
في خاتمة الكتاب يشير اليوسف إلى أن أبطال كنفاني يعكسون الروح أثناء تطوره في التاريخ، ويعبرون تعبيرا أمينا عن كل مرحلة من مراحل تاريخ الشعب. وفي خدمة هذا الترابط القائم بين العام والخاص، والقائم فيما بين الشخصيات فقد جاءت التقنية في "ما ترقى لكم"، محققة لتراكز أنسجة الحدث، أي اعتماد معنى اللحظة الواحدة على معان سواها من اللحظات، بقدر ما يعتمد معنى سواها عليها. ويتوافق هذا التراكز مع منهاجية الاسترجاع الخلفي "فلاش باك"، الذي تتداعى المعاني بواسطته وتتألف. وبهاتين الوسيلتين، التراكز والاسترجاع، يتحقق الانسياب المتدفق لتيار الشعور.
ويرى اليوسف أن كنفاني كان يتطور باتجاه تعميق الرواية الفلسطينية الموضوع، وذلك من خلال استحداث أشكال جديدة، وكذلك، من خلال تأسيس لغة روائية تتصف بقدرتها على حمل المعاني العميقة، وبتماسها بقطاع اللغة الشعرية.
ويشير المؤلف إلى رواية "العاشق"، التي هي العمل الذي كان سيقدر له أن يغدو أعظم رواية فلسطينية على الإطلاق. لأنه كان سيتطور باتجاه ملحمة تراجيدية فحسب، بل لأن كنفاني قد امتلك فيه القدرة على الصوغ العميق للشخصيات. فهو يوفر للبطل من الفرص ما يجعل منه اسما عظيما. وأهم ما نلاحظه هو أن كنفاني يقوم ببسط المضمون الذاتي للشخصية عبر الحدث أكثر مما يقوم ببسطه عبر الحوار أو عبر تداخلات المؤلف. وهذه خطوة جبارة قام بها كنفاني، لأنها تأخذ بالحسبان أن الفعل هو إخراج الوعي على هيئة موضوع.
وخلص المؤلف إلى أنه يمكن في كل رواية من روايات كنفاني العنصر الاجتماعي أو التاريخي. وهذا يعني أن كنفاني يعمد دومان بصورة بصوره مباشرة أو غير مباشرة، على تبيان السبب الذي من أجله تقدم الشخصيات على الفعل أو تحجم عنه. والحقيقة أن تفاعلنا مع شخصياته يتوقف على القدر الذي تعكس به إنسان البيئة، وعلى القدر الذي تتفاعل به مع هذه البيئة. وبذلك تواظب رواياته على سبر الواقع وارتياد مجامله واكتشاف ما استتر منه، أو تعميق استيعاب ما هو مكتشف بحيث يغدو أشد نصوعا من ذي قبل، لافتا إلى أن رواية "الأعمى والأطرش"، التي لا تكشف عن جديد في الواقع الفلسطيني، تستطيع أن ترسخ فينا وعي القهر والشعور بالتمزق، وأن تعمق وتوسع مثل هذه الحال الداخلية.
في كلمة على غلاف الكتاب تشير إلى أن اليوسف يطرح في دراسته هذه مجموعة من الأسئلة على النقاد الذين تناولوا تجربة كنفاني، ومن بين أسئلته: لماذا لم تبحث النقودات الموجهة إلى تراث غسان في التقنية المدهشة التي استعملها غسان في "ما تبقى لكم"، ولا سيما من حيث العلاقة بين تناسج هذه الرواية وبين مضمونها؟ ما هي النواة المركزية في البناء النفساني لأبطال غسان (عقدة الذنب)؟ ما الذي أثبته غسان حين كتب "رجال في الشمس"، أعني ما هو الاكتشاف الفني الكبير الذي فتح الأنظار عليه؟.
ويذكر أن يوسف سامي اليوسف (ولد في قرية سلمة-يافا 1938، هُجّر في العام 1948، واختارت أسرته سورية للجوئها. عاش حياته في مخيم اليوموك، وبقي فيه حتى تمّ تدميره بالطائرات، فلجأ اليوسف إلى مخيم عين الحلوة-بيروت، وتوفي فيه العام 2013).
صدرت له عشرات الكتب، أبرزها: "مقالات في الشعر الجاهلي"، الغزَل العذري"، و"ما الشعر العظيم؟!"، و"فلسطين في التاريخ القديم"، مذكراته في أربعة أجزاء بعنوان "تلك الأيام"، مرورًا بقراءته لإبداعات الشهيد غسّان كنفاني، "رعشة المأساة".. وغيرها.