عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Jul-2020

تأملات نقدية في قصيدة «أنشودة القدر» لنايف الهريس
 
أ.د. إياد عبد الودود عثمان الحمداني/ العراق
الدستور- ترتبط مادة (أنْشَدَ) في لغتِنا العربيّة بالاستدلال، فعندما نَقول: أنشَدَ الضّالّة، فهذا يعني أنّهُ عرّفَها وَدَلّ عليها، وَيبدو أنّ عنوانَ قَصيدةِ (أنشودة القدر) للشّاعر الإماراتي نايفِ الهَريس ارتبطَ – ضمنًا – بهذا المَعنى، فَقد تَجاوزَ عنوانُها حدودَ المَعنى المُتَداوَل الّذي يُحيلُ على التّلحينِ وَالأداءِ الخاصّ إلى مَعنى المَعنى وَتداعياتِهِ.
لَقد كانَ القدرُ مُتَحَكِّمًا بمآل القصيدةِ وَعوالِمِها، فهي تُحاكي مجدَ العراق، وَمشاعرَ العربيّ تجاهَ ما يَحصَلُ في الوقتِ الرّاهن، وَيبدو أنّ حوارَ الشّاعرِ مع أحَدِ أصدِقائِهِ النّقاد من العراق كان سَبَبًا في نظْمِهِ للقصيدَةِ ثُمَّ نشرِها في جريدَة الدّستور الأردنيّة (يوم الجمعةِ 22 – 5 – 2020م)، وَقدْ قامَ بتعديلِها وَترميمِ بعضِ أبياتِها إيمانًا منه بأهميّةِ التّكاملِ بينَ الشّعرِ والنّقد؛ فَقد كانَ يُحسِنُ فلسَفَةَ التّكامُلِ هذه مَعَ أصدقائِهِ النّقّاد، وَالوَسطِ الثّقافيَّ، ومجالسِ العلمِ، وَمُنتدياتِ الثّقافة.
وَكانَ الشاعر الهَريسُ قد نَظَمَ قصيدةً أهْداها إلى صَديقِهِ النّاقد الدكتور إياد عبد الودود الحمداني رَدّا على عِتابِهِ لَهُ على عَدمِ نظمِهِ في العِراق؛ يَقولُ الهَريس إنّ هذا النّاقدَ؛ (( زرَعَ بي أحاسيسَ سَطّرَتْ أشْواقي للعِراق))، مَطلَعُ هذهِ القَصيدةِ المَوسومَةِ بـ (عِتابٌ زالَ الضَّباب):
«عِراقيُّ عَتبـانٌ على قَلَمــي/ لِـجُحدٍ بشِعري لابِسِ التُّهــَمِ/ عِتابٌ مِنَ الأبـرارِ أقبَلُـهُ/ وَدَفْقُ الفُراتَين امترى دِيَمي».
ثُمّ تَبلُغُ (شعريّةَ) حُبّهِ للعراقِ ذَروَتَها في هذهِ القَصيدةِ بقولِهِ:
«فَيا لائمي دَعْني لِقَلْبِ ثَرى/ بِحُـبٍّ لأرضٍ عِشْقُها بِدَمـي»
ومن المهمّ القولُ – هنا – إنّ هذه القَصيدَة تَرْتَبِطُ بِقَصيدَةِ (أنشودة القَدر) الّتي نَقومُ بِدراسَتِها؛ بما يَظْهِرُ من تكاملٍ عُضويّ وَموضوعيّ؛ فالقَصيدتان اسْتَنَدَتا إلى رَويّ الميم، وَوَزْنُ (البَيسان) الوَقور الذي أظهَرَ رَتابةً يَقَلّ نظيرُها في الأوزانِ العربيّة كما في المُنسرحِ، والمقتضَبِ في صورَتِهِ الشّائعَةِ. وَيُمكنُ رَصْدُ مَظْهَرِ (التَّقفية) في مَطلعِ القَصيدتَين، فَعَروضُ الْمَطلَعَينِ (التفعيلة الأخيرة من صدر البيت) يَتَوافَقُ مَعَ ضَربِهِما (التفعيلة الأخيرة من عجز البيت).
وَيمكنُ القولُ إنّ القَصيدتَين متناغمتان وترتبطان بتعالقاتٍ واضِحَةٍ تجعلَهُما في بوتقَةٍ واحدة، فَهما من بَحرِ (البَيسان) الذي رَسّخَهُ الشّاعِرُ، القائِمِ على ثلاثِ تفعيلات: (فَعولُن - مَفاعيلُن - مَفاعِلَتُن )؛ إذ أظهرَ هذا البَحرُ توازيًا مقطعيّا مطلَقًا، فليسَ هناك أيّ مُتغيِّرٍ من الزّحافاتِ أو العِلَلِ في كلا القَصيدتَين القائمتَين على قيمِ الفَضيلَةِ والنُّبْلِ والأصالةِ الفنيَّة.
وفي هذا المقالِ العِلْمِيّ سأقتَصِرُ على تَسْجيلِ مُلاحَظاتٍ نقديّةٍ وَتأمّلاتٍ شعريّةٍ في قصيدة (أنشودة القدر)، بعد أن سجّلْتُ المَلْمَحَ الأوّلَ بالتعالقِ الظّاهرِ مَعَ قَصيدَةِ (عتاب زال الضّباب).
تنطلقُ القَصيدَةُ بهذا الاستهلالِ المُنْسَجِمِ مَعَ قِيَمِ البُطولَةِ المُقتَرِنَةِ بِذِكرِ بَغداد وَمعالمِها التاريخيّة، وَتَجِد الشّاعرَ يُخاطبُ شَعْبَ العِراق وَيَصِفُهُ بالمُضَحّي الماجدِ ذي التاريخِ العَظيم، يقول:
«إذا صـالَ، صالَ النّصرُ يَتبَعُهُ/ بروحِ الفِدا أبكـى السّيوفَ دَما/ ذرى المـجدِ مرفوعٌ بهامَتِــــهِ/ يُحاكــي شــبابًا للعَرينِ نَــــــما».
وتستمرّ أجواء نُصرَةِ العراقِ وأهلِه، وَوَصْفِ حالِهم، موَظِّفًا أساليبَ البيانِ المَقرونِ بالبناءِ اللغويّ المُحكَم:
«مَشى بَينَ أنّاتِ الزّمــانِ علـى/ دُروبٍ تُماري السّيفَ والْجَلَـما/ بِنَسْجِ الفِرى دَعشًا دَعا الكفرا/ لِسَـيفِ انتهازيٍّ رَمى العِصَـما/ متـــى عَينُ بغدادٍ تُبَصِّــــرُهُمْ/ بِتاريخِ مــاضٍ عـــادَ مُـعتَــتِمـا».
فنلاحِظُ أنّ الزَّمانَ يَئِنُّ، ولبغدادَ عَينٌ مُبْصِرَةٌ – على سَبيلِ التَّشخيصِ – وَيُحيلُ مَشْهَدُ الشّعبِ الصّابر على حَدَثِ حَرْقِ الْمَكْتَباتِ عِندما غَزا المَغولُ بَغدادَ سَنةَ (656هـ) مُذكّرا وَمُلْمِحًا على دَوَرانِ التّاريخِ، وَأهَميّتِهِ، وَوجودِ التناصّ التاريخي في هذا المقام يثري النصّ ويعطيهِ طاقةً إضافيّةً ، فاللغَةُ الإبداعيّةُ العَربيّةُ تَفيدُ من ظلالِ المَعاني وَتَتَفاعلُ مَعَها في تَحْقيقِ الشّعريّة الأصيلَة، وَيَسْتَمرّ الْمَشهدُ في اسْـتحضارِ أنويَةٍ تاريخيّةٍ تعانقُ الحَدَثَ التّاريخيّ، فالبَصرةُ حاضِرَةُ المُسْلِمينَ يكنّى عنها بـ (أمّ الماء) لِكثْرَةِ أنْهارِها وَخَيرِها وَعَطائِها؛ يَقول:
«فما ازْرَقَّ فيها دَجْلَةٌ بطِلًا/ وَأحْبارُ ماءِ الكُتْبِ تَروِ دِما/ وَبَصْراءُ أمُّ الماءِ شــاهِدَةٌ/ بما ذابَ بالأمواهِ عـادَ نَــما»
ويَظهَرُ (التمثيلُ) في القَصيدة بِهَيئةٍ مُرَكّبَةٍ متواشِجَةٍ مع أنواعٍ مجازيّةٍ أُخرى؛ ليصعد بالمستوى الفنّي للقصيدة، يقول:
«فأذكَتْ بَنو الأَعْراقِ يَقْرَؤهــا/ بِدَهـْـرٍ غَدا يَسْتَسْمِنُ الوَرَما/ وَيَغْلــي رُعودُ الْخَيرِ ظامِئَــةً/ وَبالأرْضِ مَحْلٌ لايُفيدُ حِمــى/ إذا الزَّرْعُ ما اخْضَرّتْ مَنابِتُهُ/ كأنّا بأرضٍ تُـنـْبـِتُ العـَـدَمـــا».
وعلى الرّغم من أنّ هذه الصّورَ مَألوفَةٌ بَيدَ أنّ ظهورَ التّمثيلِ في سِياقِ التّشخيصِ أعطاهُ قيمةً مضافةً، فالدّهرُ يَسْتَسْمِنُ الوَرَم، وَمَقامُ ذِكْرِ الوَرَمِ – هنا – يَنْقِلُنا إلى تَجاهُلِ القِيَمِ وَالقَبولِ بالأَمْرِ الواقِعِ. ثمّ تَظْهَرُ في سِياقِ الْمَشهَد الشّعرِيّ الرّعودُ ظامِئَةً تَعْزيزًا لِمقامِ الصّورِ الْمَجازِيّةِ، وَتَبَعَ ذلكَ ظُهورُ (المُقابَلة) الّتي تَسْتَدعي نَسَقًا تناصّيًّا مُماثِلًا، يقول الشّاعرُ نايفُ الهَريس:
«فإمّا حَياةٌ تَزْدهي شَرَفًــا/ وَإمّا مَماتٌ يَخْلُقُ العُظَما»
يُقابِلُهُ قَول الشّاعر الفِلسْطينيّ الشّهيد عبد الرّحيم محمود:
«فإمّا حَياةٌ تُسِرُّ الصَّديقَ/ وإمّا مَـماتٌ يُغيظُ العِدى»
ثمّ تَنْتَهي القَصيدةُ بِبَيتٍ ثريٍّ يُحاكي بَيتًا مُتَداوَلًا، يقولُ فيه الهَريس:
«بِلادي وَإنْ جــارَتْ أجَمِّلُــها/ وَأهلــي زُنودي تَرفَــعُ العَلَما»
ليُحاكي المَوروثَ التّاريخيَّ للأمّةِ مَرّةً أُخْرى بقولٍ شِعريّ أصيلٍ مَنْسوبٍ للشاعرِ الحِجازيّ قتادةَ بن إدريس (ت617هـ):
«بِلادي وَإنْ جارَتْ عَلَيَّ عزيزَةٌ/ وَقومي وَإن ضَنّوا عَليَّ كِرامُ»
أخيرًا يُمكن القولُ إنَّ هذه القَصيدة (أنشودةَ القدر) وَاحدةٌ من القَصائدِ الثّريّة بأساليبِ البَيانِ، كانَتْ كثيرًا ما تَسْتَقْطِبُ الْمَعاني التّراثيّةَ وَالصّور المُتَداولة التي أثْرَتِ النّصّ، فالتّعالقاتُ المُتَحَقّقَةَ، ابتهَجَ بها المُتلقّي وَتَحَقّـقَتْ عندَهُ صورَةَ من التوافُقِ بينَ المَبْنى وَالمَعْنى، وَهذهِ سِمَةٌ مُضافَةٌ لشِعْرِيّةِ النّصّ وَفاعِلِيَّتِهِ.