سرير «بروكروست»!*د. عاطف القاسم شواشرة
الراي
أصدقاء وصديقات الفكر.. هل نمتم يوما على سرير بروكروست Procrustes bed..؟
بروكرست شخصيةٌ من الميثولوجيا اليونانية، حيث كان حدّاداً وقاطع طريقٍ من أتيكا، يبحث عن ضحاياه في كل ما يصادف من بشر، وكان بروكرست يقومُ بدعوة أيَّ مُسافرٍ مارٍّ ليُحسن ضيافته ويدعوه إلى النّوم في هذا السرير، وكان بروكرست مهووساً بأهميّة أن يناسب طول الضيف مقاس سريره الحديدي، فاذا كان الضيف أطول من السرير قام بروكرست بقطع أرجله ليتناسب مع السرير، وإذا كان أقصر من السرير مطّ جسم الضحية حتى تتكسر مفاصله ويتساوى جسمه مع طول السّرير بالضبط، ثم يستولي على أموالهم.
الطّريف في الأمر هو أنّ بروكرست كان لديه سريران (بشكلٍ سِرّيٍّ)، لذلك لم يكن هنالك أحدٌ يتناسب مع السرير لينجو من هذا المصير المُرعب، أي أنّه كان يُقدّر الطول ويأتي بالسرير الذي لا يناسب الشخص ليقوم بإجباره على التّلاؤم مع سريره غير المناسب.
استمرّ بروكرست بجرائمه المروعة حتى ألقى القبض عليه ثيسيوس وأخضعه لنفس ما أخضع له ضحاياه، حيث أنامه على سريره وقطع رأسه ليتلاءم مع السّرير.
الحقيقة ان هذا الفكر (البروكرستية) ما زال يعيش معنا ومتغلغلا في رؤوسنا حتى اليوم، فكم منا كازواج يفرض على شريكة حياته وعلى أبنائه وعلى موظفيه اراءه وأنماطه الفكرية والمعيشية وانماطه الجندرية، وكم منا يسعى لفرض رأيه واستنساخ نفسه في تطابق متعسف ورفض التنوع والتناغم والاختلاف، بل والسير من التعميمات والأحكام المسبقة في رؤوسنا إلى الجزئيات بدلا من بناء الأحكام على المعلومات والجزئيات، كم مرة أصدرنا أحكاما جائرة على النّاس وفرضنا المساواة المطلقة على المواطنين ووضعنا الجميع في قالبٍ واحدٍ من دون مُراعاةِ حقيقةِ اختلافاتهم.
كم مرة حاولنا ليِّ عنق الحقائق أو تشويه المُعطيات لكي تتناسبَ قسراً مع مخطّطٍ مسبق فيّ أذهاننا فرسمناه بشكل مستبد معتقدين بل جازمين أننا نحن النموذج الأمثل للإنسانية المتكاملة، في حين أنها نزعة استبدادية لدينا لاغتيال ورفض الآخر.
إن البروكرستية هي أحد أعظم أمراض العقل الحديثة، فهل من ثيسيوس يوقظنا؟