عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Jul-2020

نهى بطشون: مجزرة (دير ياسين).. جرح لم يلتئم منذ 72 عاماً

الراي - كنا ننام تحت الأَسِرّة، نحمي أنفسنا من رصاص طائش. وعندما نسمع الانفجارات نسارع إلى إطفاء النور

عمل والدي في جريدة فلسطين التي تأسست في يافا عام 1911 وبقيت تصدر حتى عام 1948 في حصة بعد الظهر.. كنا ننام على حصيرة من القش الناعم عبْرً أبي مرة لشقيقتي بقوله: «إذا تعاركت سمكتان في البحر لا بد ان يكون الانجليز وراء ذلك العراك!»
علمنا أستاذ الإنجليزي موسيقى وأغاني منها: أيام الصيف مليانة كيف و«عطشان يا صبايا» و «تفتا هندي»
ذكريات مليئة بالمصادفات، تسردها نهى بطشون بعفوية وبساطة وبكل صراحة. تقلب صفحات حياتها منذ ان وصلت إلى الدنيا من شهر شباط عام 1936 ،في حي العجمي في يافا حتى هاجرت منها إلى عمان.
اثنا عشر عاما عاشتها في يافا تحمل ذكرياتها.. وما زالت تعيش أمل العودة في يوم من الأيام مهما طال الزمن.
والى ان يأتي هذا اليوم الذي طال انتظاره مع عدو يتوغل أكثر وأكثر كل يوم في انحاء فلسطين، لكنها لم تيأس وهي تحمل يافا على أكتافها وفلسطين في قلبها والقدس جرحها.
من يافا إلى عمان والقاهرة والبحرين إلى لندن وبالعكس. ومن التعليم إلى الإعلام والفن التشكيلي.
.... سبعة عقود رأت فيها الإعلامية والمربية نهى بطشون ما لم يره الكثيرون.
عايشت الإذاعة الأردنية في عزّها بالستينيات، ومع الإذاعة البريطانية قُدّر لها أن تشهد ستينيات وسبعينيات القرن الماضي: عقود العمالقة الذي تحتفظ لهم ذاكرة نهى بطشون بتفاصيل فيها من الشجن بقدر ما فيها من الآلفة.
تسمع لها وهي تستذكر تفاصيل طفولتها فلا تستطيع إلا أن تشاركها الحنين الذي تثريه بتفاصيل العيش في جبل عمان وفي جبل الحسين عندما كان مخيماً.
نهى بطشون تمتلك مع الريادة في الإعلام النسوي ريادة أخرى في توثيق الفن وتأصيله حيث أنشأت أول جاليري في الأردن، وأهدت لأمانة عمان الكثير من الصباريات، وإذا قُدر لها أن تصدر الجزء الثاني من كتابها راهبة بلا دير، فانها ستثري التاريخ الاجتماعي لضفتي نهر الأردن بالذي لم يُدوّن من ألوان ريحان القلب.
نسأل نهى وهي التي لديها فائض من الجمال والثقافة والخلق، لماذا لم تتزوج؟ فتجيب
راضية: لم يأت الشخص المناسب.
أين يافا الآن من ذاكرة نهى بطشون بعد مرور 72 عاما ونيف على مغادرتك لها؟
ما زالت في القلب وستبقى.. حين أستعيد يافا اليوم، أو أذكرها أحس انها صديقة طال غيابها، فأشتاق إليها. تلك المدينة الجميلة النظيفة، الملأى بالشذى والعطر، لا هي سهل ممل، ولا هي جبل يقطع الأنفاس، عند الصعود إليه.. هي يافا وحسب.
عندما كبرت بدأت أشعر بأننا خذلنا مدينتنا الجميلة تلك.
مدرستي في يافا الـ «CMS «أذكر مديرتها «مس ملز» التي أصبحت بعد الهجرة مديرة لـ «CMS «في عمان.
أذكر ساحتها التي كنا نلعب فيها، والملعب الكبير الواسع، وشجرته الوارفة بجذعها الكبير الضخم، وحولها يلتف مقعد خشبي أخضر بشكل سداسي.
من معلماتي اللواتي أذكرهن في هذه المدرسة «ايفلين بوري» و«جنفياف غزاوي» وشقيقتها «مرجريت» ذات العيون الخضر وأيضا «أنيتا عريضة وشقيقتيها سعاد وليلى».
كنت أصغر سنا من معظم بنات صفي. أذكر أنهن كنّ يتبادلن النكات ويضحكن ولا أفهم لماذا يضحكن، حيث لم أجد في هذه النكات ما يضحك واذكر من بينهن فتاة مصرية قبطية وكانت أكثرهن شقاوة.
حصة النوم
من بين الحصص التي كنت أستمتع بها، حصة كانت دائما بعد الظهر. كنا، خلالها ننام على حصيرة من القش الناعم. وكان لا يسمح لنا، اثناء الحصة بالكلام. في هذه الحصة كنت اشعر بمتعة الهدوء والسكينة، حيث يسرح خيالي في أشياء كثيرة، ولا أذكر فيما كان يسرح ذلك الخيال.
«مستر فولي» أستاذ اللغة الإنكليزية هو أيضا معلم الموسيقى والغناء، وخصوصا الأغنيات الشعبية. ومن أغانيه أذكر: «تفتا هندي..» و أغنية «أيام الصيف مليانة كيف، كلها خير وأنعام ما في أتراح كلها أفراح..» و«عطشان يا صبايا» وقد كانت لهذه الأغنيات كلمات جديدة، غير تلك التي يعرفها الناس.
شوارع يافا
محدودة هي الشوارع التي أذكرها في يافا. منها الطريق إلى المدرسة، ونصادف أحيانا «ست ستيلا غريب» ويقال ان والدها عربي من لبنان، وأمها أجنبية وكانت تعيش مع شقيقاتها وتُدرس الأشغال اليدوية، في المدرسة الأهلية وقد علمت شقيقاتي الأكبر مني سنا.
أذكر ان ـ ست ستيلا لها كلاب تعتني بها عناية الأمهات بأطفالهن، تنسج لها الجاكيتات الصوفية، في الشتاء خوفا من البرد. كلما أراها في الطريق مع كلابها أجدها مدعاة لتأملاتي.
وشارع آخر في يافا يؤدي إلى بيت خالي في «النزهة» لا أذكر ان في أول هذا الشارع بيوت لكن على يمينه يوجد بيارة ومن على يساره شجرة «جميز» وهي شجرة دائمة الخضرة كبيرة الحجم، إذا لم تكن من أكبر الأشجار، وهي شجرة معمرة وذات أفرع كثيرة تشبه التوت الشامي وأوراقه أرق وأصغر من أوراق التين،. وتتميز الشجرة بأخشابها الصلبة والقوية جدا التي تتحمل الماء لسنوات طويلة. «أما الأوراق فهي بيضاوية الشكل خشنة الملمس إلى حد ما، وظلها وارف يغطي دائرة بقطر عشرة أمتار تقريبا، كنت دائما أقف أتأملها باعجاب. أتحسسها وأعبطها.
هل كان بين الطالبات في الأهلية فوارق اجتماعية؟
لا.. لم نكن نحس أن هناك فروقات طبقية، لا في المدرسة ولا بين أبناء وبنات الحي الواحد.
كنا جميعا نلعب معا. ابنة «الفران» في الحي أو ابنة الموظف أو ابنة تاجر البرتقال.. حياة بسيطة من الفرح والمرح والكل على طبيعته دون تكلف.
جريدة فلسطين
منذ وعيت على الدنيا، عرفت ان والدي يعمل في جريدة فلسطين، التي تأسست، في يافا، عام 1911 ،وبقيت تصدر حتى عام 1948.
كان أبي مميزا في مهنته دقيقا في عمله، إذ كان مديرا لـــ «مطبعة فلسطين» أنشأها عيسى ويوسف العيسى لطباعة الجريدة التي بدأت في الصدور في يافا عام 1911.
شجع أبي تعليم البنات، كما كان نظاميا لا يحب الفوضى ويطلب منا دائما ان نستعد لليوم القادم، ولمتطلبات اليوم القادم. حتى على مستوى المدرسة، بتجهيز كتب الغد، والملابس التي سنرتديها. كان يحب ان نتقن كل عمل نقوم به مهما كان صغيرا.
لم يكن يميز بين الابن والابنة، ولا يفضل البنين على البنات، ولا يسمح لأبنائه باستغلال شقيقاتهم لأنهن في نظر المجتمع أقل شأنا من الأشقاء في ذاك الزمن. ولأفكاره صبغة تقدمية يسعى الناس إلى تطبيقها اليوم. في حين انه كان يمارسها قبل تسعين عاما في مطلع صباه.
لوالدي اطلاع ومعرفة بالسياسة العالمية. شخصيته كما عرفتها رجل وطني بهدوء. يدرك ألاعيب الاستعمار ودروبه. عاصر الحكم العثماني وعايش تقرب الألمان من العرب. ثم أدرك وعاش فترة الانتداب البريطاني وتغلغل الحركة الصهيونية في فلسطين.
أما رأية في الانجليز فقد عبر عنه مرة لشقيقتي «فوميا» بقوله: «إذا تعاركت سمكتان في البحر، لا بد ان يكون الانجليز وراء ذلك العراك!».
أما والدتي فقد عثرت على وثيقة وحيدة تاريخها مسجل عام 1905 قرأت فيها تعليمات: «ان لا تسمح لابنها خليل اللعب في الشارع» و«أن لا يتعرض لأشعة الشمس القوية، كي لا يمرض»، وفي تلك الوثيقة عثرت على وصفات طبية لعدد من الأطباء العرب والأجانب، الذين كانوا يمارسون الطب في يافا، وعالجوا والدتي منهم د. «ج. كورني» وهو طبيب مستشفيات مدينة نانسي ورئيس المستشفى الفرنساوي في يافا. وتلفونه» 132« والوصفة الطبية مسجلة في 29 /تشرين أول 1924 .وايضا د. «ه يعقوب» و» الدكتورة «أنّا يعقوب» تخصص امراض جلدية وتحسين الجمال وأمراض الشعر.
مجزرة دير ياسين
ما زال في ذهني حاضر لون الزجاج، لشبابيك بيتنا، وشبابيك بيت جيراننا مطلية باللون «الليلكي» الذي لا يسمح للضوء الخافت ان يمر عبره. وفيما بعد علمت ان ذلك سبب تعليمات التعميم، الصادرة من سلطات الاحتلال البريطاني ابان الحرب العالمية الأولى.
في معظم الليالي في تلك الأثناء كنا ننام تحت الأسرّة كي نحمي أنفسنا من رصاص طائش، أو زجاج متطاير. كنا حينما نسمع الطلقات والانفجارات نسارع إلى إطفاء النور، وننبطح كلنا تحت الأسرّة.
في احدى الليالي توالت الإنفجارات. وكنا في بيت خالي بشارة كان ذلك في شهر آذار 1948، قبل مغادرتنا يافا. إثر كل انفجار كان البيت يهتز تليه طلقات نار متتابعة وقد قضينا معظم تلك الليلة تحت الأسرّة حيث انشغلت والدتي بتهدئة شقيقي الصغير ولا أذكر أين كان والدي.
في الصباح علمنا ان مجزرة وقعت في بلدة «دير ياسين» وهي قرية تقع غربي القدس غنية بآثارها حيث دمرها العدوان الصهيوني عام 1948 بعد تعرضها للمذبحة الوحشية وأقام العدو مكانها مستعمرة «جفعات شاؤول».
في اليوم الثاني للمجزرة كانت الحركة غير طبيعية في المنزل الذي نقيم فيه، في حي النزهة.
في أول صباح تلا مجزرة دير ياسين اجتمع بعض الجيران في بيت خالي وكانوا يتحدثون عمّا يجب ان يفعلوه.. لقد أحسست ان شيئا رهيبا قد حدث. لم اسمع كل شيء لكنني سمعت ان اليهود اعتدوا على الفتيات.
اتفق الجيران خلال اجتماعهم ألاّ يغادروا يافا. وفي اليوم التالي قيل ان أحد الجيران ترك يافا مع عائلته وسيعود بعد اسبوعين.
استمرت الطلقات تدوي والانفجارات والرعب والنوم تحت الأسرة.. توالت اجتماعات اخرى ووعود متجددة بألا يغادر أحد يافا وبعد يوم أو يومين نسمع ان فلانا من الجيران وعائلته قد غادرها، لمدة اسبوع او اسبوعين » لحين ان تهدأ الأحوال» ولم تهدأ.
في أحد صباحات تلك الأيام، توافد عدد كبير من النساء القرويات يحملن «بقجهن» فوق رؤوسهن. ما يعني ان مصيبة أخرى حدثت في ضواحي يافا. لقد شاهدتهن من البلكونة.
تغيرت الحياة اليومية في يافا بشكل ملموس. المأكولات لم تعد متوفرة. كل شيء أصبح نادرا، أو صعب المنال، حتى الطحين لم يعد الحصول عليه أمرا ميسورا أو سهلا، حيث أكثر بائعي هذه المواد أقفلوا محلاتهم ومنهم من غادر يافا.
تركنا يافا
غادرنا يافا في صباح باكر عبرنا حقول قمح كان يختبئ بها جنود يهود. كنا نستطيع رؤيتهم وهم يحملون بنادقهم. وحيث يختبؤون، سخروا منّا. وهزؤا بنا وهم يغنون: «خلي السيف يقول..»
وصلنا عمان ليلا وعند وصولنا سألنا عن بيت عائلة» أيوب» بيت شقيقتي ماري وزوجها أنطون، حيث غادرا يافا قبلنا. قادنا النشامى الى بيت لعله كان في طلعة «جبل الأشرفية» لعائلة أيوب فتبين انها غير عائلة شقيقتي وزوجها، فدخلت وشقيقتي فوميا الغرفة كانت تموج بمن فيها من نساء ولم تكن شقيقتي بينهن.
في الغرفة التي نمت فيها وضعت وشقيقتي فوميا رأسها على حضني وأخذت تبكي.
في تلك اللحظة انتابني احساس أنني وحيدة رغم عدد النسوة الكبير في الغرفة.
(صمتت نهى بعينين دامعتين.. لم تستطع المتابعة، وقاتل: حين أستعيد ذكريات ما بعد الهجرة أحس بالكآبة والحزن، لأسباب أعرفها واخرى لا أعرفها. ففي مطلع هذه الفترة،كان علي ان انسى طفولتي المرحة المليئة بالحيوية والنشاط والشقاوة، وأنا أتعاون مع جو مشحون فيه كثير من الانفعال والمشاعر المكبوتة والتوتر والقلق والخوف من المجهول.
ومع أنني لا أذكر على الاطلاق، ان والديّ أو شقيقاتي الأكبر مني سنا ذكروا أي شيء عن المعيشة الصعبة التي كان معظم الناس يمرون بها إن لم يكن أغلبهم، الا أني كنت أحس ان هناك أمورا لا تبعث على الفرح والانشراح أو السرور.
كان علي أن أكبر بسرعة وأن أرى كيف تعثرت أحوال الكثيرين ممن حولنا من الأقارب والمعارف والأصدقاء وكيف أصبح العجز يحيط بهم وانا أرى بعض النسوة من الأهل عند والديّ يتحدثن بهمس ودموع صامتة يشكين من أمور تعترض حياتهن، ومعظم الناس كانت حياتهم كلها انتظار. يعيشون على أمل العودة إلى بلدهم.
(الفن في حياة نهى بطشون، وجمعها للتراث والرسومات والمعارض التي أقامتها وابداعاتها، وبيتها الذي تأمل تحويله إلى متحف مليء بتاريخ تحمل ذكرياته كل زاوية من زواياه، حلقة قادمة ان شاء االله).