عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Feb-2021

الفنان مهنـّـا الدرّة: جولة في السيرة والأسلوب

 الراي-د. مازن عصفور

في ستينات القرن الماضي، وفي زمن ثقافي كانت تنمو فيه الحركة الفنية المحلية باضطراد بسواعد روادها الأوائل، تلقفت الساحة الفنية مهنا الدرة؛ ذلك الشاب المتحمس العائد من إيطاليا بعد إتمام دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، فعايشناه شبابا لم نتجاوز العقد الثاني من أعمارنا، رجلا وسيما دائب الحركة والنشاط متنقلا بسيارته الحمراء الرياضية بين أحياء المعهد الذي كان يحلم به ليعمل على تأسيسه في مطلع السبعينات في منطقة الدوار الثالث، وعلى مقربة من دائرة الثقافة والفنون التي أظهرت حماسة لتنفيذ الفكرة.
 
تجول مهنا الدرة في الأحياء المجاورة للمعهد وبين الدوائر المعنية لجمع التجهيزات وحاجات المكان من أقمشة وأوراق وأصباغ وضمن الظروف الصعبة المتاحة لذلك في ذلك الوقت. لقد كان يرغب في نقل ما عايشه في دراسته بإيطاليا إلى ذلك المكان الصغير في الدوار الثالث؛ إنه تعبير عن حب الوطن ودليل على الانتماء له رغم احتكاكات مهنا الفنية الحداثية الأوروبية.
 
وبالطريقة نفسها التي يتفرس بها مهنا بوصفه فنانا، بدأ يتفرس في عيون ووجوه شباب الحي والقادمين إليه من كل صوب، لينشر الإلهام بضرورة حب الفن في قلوب ووجدان الشباب أمثال: نبيل شحادة وعمر حمدان ومأمون ظبيان ومازن عصفور وغيرهم. وفي أحد الأيام غضب مهنا من بعضنا عندما قلنا إننا بصدد التقدم للدراسة الثانوية، ليصرخ بنا: «هل تفضّلون التوجيهي على الإبداع؟ هل تريدون أن تصبحوا موظفين؟ أنا سأتيح للمتفوقين منكم فرص الدراسة العملية للفن من خلال المنح».
 
بعضنا دبّت الحماسة فيه فتتبّع الدرة في مسيرته، وبعض الآخر انصرف عن ذلك. وبالفعل كانت البداية عندما صعق الشباب برجل بدأ يقذف الألوان على جدران المعهد الجديد مستخدما مضخة بخاخة لطلاء السيارات والمعبأة بأصباغ ألوان الاكريليك التي عجنها يدويا بعد أن كان قد احضرها من محلات مواد البناء في سقف السيل.
 
فوجئ الشباب بتلك الألوان المرشوشة تنتشر وتنساب على الجدران، تتداخل وتمتزج فيه، فحدثنا مهنا قائلا إن هذه المساحات اللونية ليست خربشة، إنما ستصبح كتلا وأشكالا متماسكة بعد أن يشدّها عبر الخط أو «يخيّطها»، وبالفعل تحولت تلك الرذاذات اللونية عندما قام بربط وشد مساحاتها بفرشاته العريضة والمدببة إلى مشهد لأجساد إنسانية راقصة ضخمة، تتحرك برشاقة ودينامية يلفّها ضباب لوني سحري التأثير بصريا.
 
بالطبع لم نفهم شيئا من هذا للوهلة الأولى بحكم ثقافتنا الفنية المدرسية المحدودة آنذاك، ولكنا فهمنا أهمية الرسم والجمال في حياتنا بعد إنهائنا أولى دورات مهنا التدريبية. وبالفعل، وبسبب ذلك الإلهام نال الشباب منحاً دراسية وفّرها مهنا كما وعد، منهم على سبيل المثال عمر حمدان ومازن عصفور إلى إيطاليا، ونبيل شحادة إلى بريطانيا.
 
وفي الوقت نفسه، لم يكتفِ مهنا بإلهام الشباب الواعدين، بل بدأ يتقصى إمكانات تعليمية أخرى يرفد فيها معهده، فتلقف النحات الشاب كرام النمري القادم حديثا من دراسته في معهد الفنون بدمشق، بوصفه أول فرصة متمرسة متاحة لتعليم النحت في الأردن، كما تلقف الفنان والمعماري علي الغول القادم من إيطاليا بوصفه قادرا على تعليم بناء التكوين والتشريح، وتوالت جهود مهنا في استقطاب المتخرجين الجدد القادمين من معاهد الفنون الجميلة العربية والمجاورة، والذين أصبحوا من رواد الحركة الفنية الأردنية في ما بعد، أمثال عزيز عمورة ومحمود طه وشيخ الفنانين رفيق اللحام ومحمود صادق وحفيظ قسيس، لتنصب جهودهم جميعا في بعث روح الحركة والنشاط ليس فقط من خلال انخراطهم في معهد مهنا الدرة للفنون فقط؛ بل في بعث الحركة الفنية برمتها، وجاء ذلك بموازاة الجهود المتزامنة لمعهد الفنانة الراحلة الأميرة فخر النساء زيد، والتي كان لها دور كبير في إخصاب الحركة الفنية الأردنية، من خلال تدريسها لفنانات كانت لهن بصماتهن، أمثال هند منكو وسهى شومان ورلى الشقيري. ?ضاف إلى ذلك الجهود الفردية الرائدة للفنانة الأميرة وجدان الهاشمي التي كان لها دور ريادي في إنشاء المتحف الوطني للفنون الجميلة.
 
ويمكن تلخيص مكونات التجربة الفنية والأسلوبية للفنان مهنا الدرة في محاورها التعبيرية على النحو التالي:
 
الوجوه الإنسانية (البورتريه) والشخوص والأجساد البشرية الراقصة
 
يشدد الدرة من خلال هذه الوجوه على الحضور الإنساني عبر تشكيله وتركيبه واقعاً تصويرياً بدراية تشريحية فائقة. ومن أبرز أعماله في هذا السياق: مجموعة البورتريهات الشخصية للأصدقاء والعائلة، وفيها يُبرز الفنان قوة الخط لديه، والحركة الراقصة، وكذلك دينامية الأجساد، حيث جسد خلالها الشخوص والوجوه، والرقصات البصرية للبدو والريفيين، بالإضافة إلى تشكيلات العمارة المحلية التي قدمها للمتلقي بتقنية لونية وخطّية غالباً ما تجمع بين الفضاء النهضوي الإيطالي بفراغاته وحركته النشطة، وتقنيات الحداثة من تجريد وتكعيب وانطباع لوني ?رسم بالنور.
 
الأشكال المعمارية وسطوح المكان وذاكرته
 
رغم تمرد الفنان مهنا الدرة اللوني والخطّي وتحرره من المحاكاة الفوتوغرافية الواقعية، إلا أنه بقي وفياً لذاكرته البصرية المختزنة، تلك الذاكرة المختزنة التي يفرغها الفنان لونياً وخطّياً على سطوح (اللاند سكيب) المعماري بشفافيات لونية كريستالية الطبقات والألوان المتداخلة عبر الرسم بالنور، وهو أمر لا يخلو من ضربات الفرشاة المتضادة والممتزجة بين الفاتح والغامق (Chiaro-oscuro)، وبين التسطيح التجريدي للمساحات الملونة.
 
وفي مجموعة التشكيلات المعمارية لمهنا الدرة، نلمس تمازجا حاذقـا بين التوزيع الهندسي لفضاءات العمارة وسطوحها الهندسية وبين الفعل اللوني التجريدي الانفعالي الحر من خلال التلاعب بإشعاعية اللون وتذويبه في شفافيات لونية ضوئية.
 
لوحات الخطوط الحبرية الراقصة
 
وفيها يعطى مهنا الدرة أهمية للخط بوصفه عنصرا بصريا له كيانه التشكيلي ومذاقه الخاص، بل وأحيانا يوظفه في تأليف لوحة فنية كاملة ومستقلة بخطوط الفرشاة العريضة والخط واللون معا أو عن طريق التخطيطات السريعة والاسكتشات الحبرية ذات الإيقاع الخطوطي الراقص السريع. ومن خلال تلك التقنية أنتج الفنان عددا كبيرا من اللوحات ذات الانفعال البصري، وحركات راقصة لشخوص غامضة الزمان والمكان، تذكرنا بالشخوض الطائرة لـ«كروتونا وكوريدجو» النهضويين الإيطاليين، ولكن بإضافة اختزال حداثي للعمق والفضاءات، محققا من خطوطه القوية السحرية ر?طا قويا متماسكـا، برشاقة، وبأقل المفردات البصرية، وفق ما يطلق عليه «السهل الممتنع».
 
مجموعة لوحات السيرك
 
وهي من الموضوعات المهمة بالنسبة لمهنا الدرة، إذ يوحي هذا الموضوع بشدة افتتان الفنان بالأسرار المختبئة وراء الوجه، التي على الفنان ذي النظرة الثاقبة كشفها، كما في حالة رسوماته للمهرجين، فهو يسعى لإظهار التناقض بين الظاهر والباطن؛ إذ تتبدى لنا تعبيرات السعادة من الخارج للمهرج المختبئ وراء قناعه وهو يرسم البسمة على وجوه الآخرين، إلا أنه في الوقت نفسه يعتصر ألما وحزنا في داخله. وهذا ما يفسر استخدام الفنان للألوان الانطباعية والتعبيرية الفرحة والمشرقة في الخارج لتظهر التناقض مع مظاهر الحزن في الداخل.
 
وتكشف الأعمال التي اشتغلها الدرة في السنوات الأخيرة من حياته، واستخدم فيها ملصقات القماش والخامات الأخرى، عن ثنائيات يمتزج فيها التجريد والتسطيح بالعمق، كما تمتزج فيهما الحركة بالسكون، وسطوح الكولاج والإلصاق بالتصويرية اللونية المتدرجة.
 
ستبقى بصمات الفنان الراحل مهنا الدرة راسخة في الحركة الفنية الأردنية والعربية، وستبقى أيضا منهلا وتقدم خلاصة خبرة متراكمة للأجيال الفنية القادمة.
 
(ناقد وأكاديمي)