عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Apr-2019

بين التغنّي بالماضي وفوضى الإنتاج*د. محمد واصف

 الراي-الغناء ظاهرة إنسانية اجتماعية، يقوم بدور أساسي في تهذيب الذوق والأخلاق، وللموسيقى وظائف اجتماعية قلّما نلمس أثرها في مجتمعاتنا المعاصرة. لكن مؤسساتنا الأكاديمية والمعنية بالفعل الثقافي والتنموي ما زالت تنظر إلى الموسيقى على أنها ترف لا حاجة. وفي كل مرة نتحدث فيها عن موسيقانا أو أغنيتنا في الوقت الراهن، يتبادر إلى الذهن فورا التغني بالماضي واستعادة الموروث الغنائي، مع أننا بحاجة ماسة إلى أن يكون هذا الموضوع موضع عناية كبيرة في دراساتنا وندواتنا ومؤتمراتنا ومقالاتنا.

 
نحن نتصدى لثقافة أصبحت متفشية كالسرطان في إنتاج نمط واحد من الأغنية الأردنية؛ ليس فقط لأن موروثنا حمل قيما فنية وجمالية خالصة، أو أبعادا فلسفية عريضة، وإنما لأن أغانيه موجودة دائما وتلعب دورا مهما في مجتمعاتنا. ولغياب إنتاج الأغنية الأردنية الجديدة المتجددة، فليس أكثر إضراراً لشعب في موقفه الحضاري والثقافي والفني من أن يحاكي مرحلة فنية سابقة، وأن يظل يعيد ويكرر الموسيقى والأغاني القديمة في محاكاة حرفية إلى ما لا نهاية، ذلك لأن صميم الحياة وتجددها يكمن في إبداعها الجديد الذي عليه أن يساير متطلبات العصر والتقدم الفكري والحضاري.
 
وعند الحديث عن إنتاج الأغنية الأردنية، علينا التوقف بداية عند عملية إعادة إنتاج أغاني موروثنا أو أغاني رواد الأغنية الأردنية الذين حلّقوا بها في الأفق العربي، بواسطة مطربين جدد؛ هذه العملية التي أثارت حالة من الجدل بين الموسيقيين أولا، وفي صفوف الجماهير ثانيا. فرغم تباين الآراء وتقييمات الجماهير حول أداء المغنين الجدد لهذه الأغاني ووضعهم في موقف مقارن مع ألمع نجوم الأغنية الأردنية في أواسط القرن الماضي، والذين قدموها بصدق الأرض وعفوية تفاصيل الحياة آنذاك وبساطة أدوات الإنتاج؛ إلا أن ذلك –وللأسف- أصبح مبررا عند بعضهم، فهناك العديد من الدوافع التي يلجأ إليها المغنون لإعادة إنتاج أغانينا القديمة، وأبرزها غياب الإنتاج الجاد المدروس لأغنية أردنية اجتماعية ومجتمعية وعاطفية، أو أغنية وطنية راقية تليق بالوطن وأهله. وإن تم ذلك، فلا تجد هذه الأغاني مساحة في البث الإذاعي والتلفزيوني المحلي، لكي تكون قادرة بعد ذلك على الخروج خارج أسوار الوطن. ولا عجب إذا قلنا إن مَن يتحكم في ما يُبَث من أغان على أغلب إذاعاتنا منذ أكثر من عشرين عاما ليسوا أردنيين، ولا يعلمون شيئا عن أغانينا وسماتها. وفي كثير من الأحيان تطلب بعض هذه الإذاعات وفنيوها مبالغ مالية مقابل بث الأغاني الأردنية ولفترات محددة.
 
فما سرّ نجاح أغنيتنا في خمسينات القرن الماضي وستيناته في ملامسة وجدان المواطن ومحاكاة تفاصيل حياته اليومية، وتغنّي العديد من المطربين والمطربات العرب بها؟
 
السرّ أنه بعد تكليف هزاع المجالي بتشكيل الحكومة، كان أول قراراته تعيين وصفي التل مديرا للإذاعة الأردنية. وكانا -رحمهما الله- يقفان على كل صغيرة وكبيرة تعنى بالأغنية الأردنية التي ستُبَثّ للشعب، لدرجة أنهما كانا يحضران عملية تسجيل العديد من الأغاني في ستوديوهات الإذاعة.
 
كانت الظروف والتحديات السياسية والاقتصادية آنذاك شبيهة بما يواجهه الوطن في الوقت الراهن، لكن الوعي السياسي والوطني والثقافي لأهمية الأغنية ورقي مضمونها وتنفيذها وأدائها ساهم مساهمة مباشرة في وصول أغنيتنا إلى أبعد مدى، وفي إجابتها عن العديد من الأسئلة التي كانت تراود الشعب آنذاك. فهل تعي الحكومة ومؤسساتها ورجالاتها وأجنحتها الثقافية والإعلامية في أيامنا هذه أهمية الاهتمام بالفعل الموسيقي وإنتاج أغنية أردنية راقية تليق بالوطن وأهله، ومنح شبابنا الواعد صاحب الطاقات والقدرات الفنية المميزة الدعمَ والفضاءات الصادقة لعرض منجزهم؟
 
في ظل عدم اهتمام الدولة بالفعل الموسيقي، وغياب المؤسسة المتخصصة أو الدوائر المعنية بإنتاج الأغاني الجديدة، وفي ظل غياب شركات الإنتاج الفني والموسيقي التي تضم مَن يتقنون «لعبة» إنتاج الأغاني وترويجها والوقوف على انتقاء عناصرها من كلمة ولحن وتوزيع عصري لا يضر بشخصيتها وأدائها، ظهرت ظاهرة دعم وتمويل نمط واحد من الأغنية الأردنية من قِبل مؤسسات في الدولة حاولت إنتاج أغنية تناسب المرحلة وتتواءم مع احتياجات الوطن والمواطن. لكن لعدم وجود المتخصصين في هذه المؤسسات، وعدم مراقبة المضمون وآلية التنفيذ والنوعية، خرجت إلى السطح مئات الأغاني التي لا تمثلنا، والبعيدة كل البعد عن إيقاع حياتنا في المدينة والريف والبادية والساحل، والتي لا تلبي الاحتياجات الوطنية للمواطن الأردني، ولا تحاور انتماءه أو تجيب عن الأسئلة التي يحملها طوال الوقت.
 
فعندما أغدقت هذه المؤسسات المال على عدد محدد من المغنين، وغابت الرقابة، وانعدم التدقيق، وقعنا بمشكلة الكلمة واللحن والإيقاع والتوزيع والأداء، لأن التفكير بالمكاسب طغى على الفن واحتياجات الوطن والشعب، فتاهت أغنيتنا وتخبطت، وتاهت أرواحنا معها، وأصبح همُّ مَن يحصل على الدعم توفير أكبر نسبة ممكنة من منحة الإنتاج، فبخل هؤلاء على هذه الأغاني وعادوا إلى الموروث فأفقدوه طعمه، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه. والمفارقة أن هذه المؤسسات هي التي تنادي الآن للحدّ من ظاهرة فوضى الإنتاج.
 
وما عظّم هذه المشكلة، ظاهرة الترويج المبالَغ به لبعض هذه الأغاني عبر الإذاعات من خلال ضجيجها الصباحي، فاكتسب أصحابها شهرة سريعة وواسعة على امتداد الوطن، بصرف النظر عما يقدمونه، وارتفعت أجورهم في الحفلات، وزادت احتمالات المنح والدعم من تلك المؤسسات التي تأثرت أيضاً بتلك الشهرة، وكل ذلك بشرعية واحدة وهي: إنتاج الأغنية الوطنية. مما دعا كل من يريد الغناء إلى انتهاج هذه الطريق لتحقيق المكاسب السريعة، ومن دون أي رقابة أو تدقيق على الكلمة واللحن والتوزيع والتنفيذ والأداء.
 
كلنا مع الأغنية الوطنية الجادة المتجددة التي تليق بوطننا وقيادته وخصوصا في هذه الأيام. ورغم أن الساحة الغنائية لم تَخْلُ من بعضها في السنوات الماضية، إلا أننا نحتاج إلى اهتمام رسمي جاد بأغنيتنا وموسيقانا، يرتكز على الموضوعية والتخصصية والرقابة والتدقيق العلمي المدروس. كما نحتاج إلى منابر وفضاءات حقيقية لشبابنا الواعد لعرض أغنياتهم وموسيقاهم، وإلى إعلام مرئي ومسموع يهتم بأغانينا وتفاصيلها وحكاياتها، حتى نذهب بأصحابها إلى أعلى درجات الطموح.