عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Feb-2021

لغز قتل لقمان سليم
درج - حازم الأمين - 
 
أخذني التفكير بلقمان سليم إلى ما قبل مقتله، ثم إلى ما بعده، ذاك أن الجريمة معلنة، والقاتل لم يخفِ وجهه، وبالتالي فإن تناوله صار من نافل القول، وهو أمر يحصل على ألسن الجميع هنا في لبنان. لكن صديقنا وصديق لقمان عباس بيضون، أشار إلى فكرة بعد وقوع الجريمة تتمثل في أن قاتل لقمان، القاتل المباشر، لا يعرف من قتل. هو ينفذ مهمة أوكلت إليه، لا أكثر ولا أقل. واستدل عباس على استنتاجه من واقعة التحقيق مع الرجل الذي حاول قتل نجيب محفوظ عندما أجاب عن سؤال المحقق المتمثل بـ”لماذا أقدمت على محاولة القتل؟” فأجاب لأنه كافر، وعندما سُئل لماذا تعتبره كافراً، فأجاب بأنه لا يعرف، ولكن هذا نص الفتوى!
 
شعرت بأن الفكرة رهيبة لجهة إعادتها القتل إلى أصل الفعل. وهي في حالة لقمان إلى الجهل وإلى الجاهلية، التي يُصوَر للمقدم على القتل بأن محرضيه، من غير أهلها. وكم هي كثيرة الأفعال التي ارتكبها هذا المجرم في جريمة واحدة. لقمان سليم كان آلة حياة ومعمل طاقة لا يتوقف. وهو إذ كان يسير أيامه وأوقاته كان يسير بموازاتهما عدداً هائلاً من الأفكار والمشاريع التي لا تتصل بالسياسة بما هي شأن قاتليه وهمهم، سوى بعلائق واهنة. ولقمان الذي شغله القتل على رغم أنه فعلاً لم يهَبه، جعل للقتل مشاريع وورشات، وأقام له معارض وأنتج عنه أفلاماً. وهو إذ فعل ذلك، كان يدرك أن مقاومة القتل تتم عبر تأسيس وعي مضاد له، وعبر إدراكه، والاقتراب منه مسافة تتطلب مقداراً هائلاً من الشجاعة والثقافة. فالقتل بحسبه فعل أصلي، أشيدت له مؤسسات، ونشأت حوله “ثقافة” أنتجت خطاباً وإعلاماً وناطقين معلنين باسمه. 
 
ومقاومة هذه الأساسات المتينة لا تتم بإشاحة الوجه عن هذا الخطر المحدق بنا دائماً وأبداً. مقاومته تقتضي الاقتراب منه بـ”صفر خوف” ولكن أيضاً بـ”صفر مساحة”. ولطالما اقترب القاتل منه، ولم يشح لقمان بوجهه. هذه الحقيقة هي التي جعلت من قتله جريمة معلنة. وهي ما أثمره الخيار الثقافي. فلقمان انتصر على قاتله عندما أجبره على الإقدام على جريمته في العراء ومن دون أي مواربة. 

 

صديقة لقمان، وتلميذته رشا الأمين قالت وهي ترفع صورته في ساحة الشهداء: كيف للقاتل أن أفرغ خمس رصاصات في جسم لقمان؟

لكن هذا أحد اللقمانات التي خلفها الرجل برحيله، فورشات العمل والتفكير والإنتاج الموازية لا تقل خطورة على القاتل. الأرشيف الذي عمل عليه، والتصنيفات التي تعمدها في عمليات التوثيق الهائلة في مركز “أمم” هي زاد فعلي في متناول فتية التفكير الذين نشأوا في منزل آل سليم في حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية. لا تستطيع الوثيقة الواحدة إلا أن تأخذك إلى فكرة لن تموت بموت لقمان. الحروب اللبنانية وأهوالها، ومشاريع إعادة الإعمار في أعقابها وما رافقها من وعي شمولي ورجعي وفاسد، وسير أمراء الحرب والقتل والموت. لكل هذه الأبواب أنشأ لقمان ورشات تفكير ترافقت مع كرم معرفي نادر حقاً. 

خصومة “حزب الله” هي من قتل لقمان، لكن هذه الخصومة تبقى هامشاً في متن هموم تتعداها، فهو اذ كان يفصح عنها ويشهرها، لم يقصر وعيه وثقافته بها، لا بل أنه لطالما ردها إلى ما قبلها وإلى ما بعدها على نحو يساعد على التخفيف من قدرتها على تفسير كل شيء. فالحرب شيء جوهري أكثر من أن نفسره بفاعل واحد، والقتل سابق على جهل القاتل وعلى قابليته للقتل. هنا تماماً أقام لقمان ورشته في دارة والده في حارة حريك. في هذه المنطقة من التفكير والشعور والثقافة. وهذا تماماً ما يمكن أن يعول عليه في المحاسبة. المحاسبة التي تتعدى فكرة محاسبة المرتكب، إلى محاسبة الفكرة وإلى تعريتها. عند هذا الحد تصبح الجريمة فعلاً تافهاً ومقتصراً على القابلية الفيزيولوجية للقتل ليس إلا.

صديقة لقمان، وتلميذته رشا الأمين قالت وهي ترفع صورته في ساحة الشهداء: كيف للقاتل أن أفرغ خمس رصاصات في جسم لقمان؟ رشا تعرف بقية القصة، ذاك أنها ابنة الورشة في “أمم”، والحلقة المتبقية من الجريمة صارت تقتصر على هذا اللغز، أي كيف لهذا المجرم أن أفرغ هذه الرصاصات في جسم لقمان؟ لغز القتل يقتصر اليوم على تفسير الجريمة بالطاقة الإجرامية للفاعل المباشر، أما بقية الفصول فقد سبق للقمان نفسه أن كشفها.