عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Feb-2019

”صالة استقبال الضواري“ لسیف الرحبي.. رؤیة العالم بمرایا الذات
 – الغد – صالة استقبال الضواري، ھو عنوان كتاب الشاعر العماني سیف الرحبي، ّ الصادر عن الآن ناشرون وموزعون بعمان، وھو یمثل رحلة في المكان، كما یمثل في الوقت نفسھ رحلة في مرایا الذات.
فالكاتب الشاعر بالمقدار الذي یطوف فیھ الأماكن بین أوروبا وجنوب شرق آسیا، یتوقف أمام الذات لمقاربات ومقارنات تنھال من الذاكرة في صور تأملات للنفس البشریة والوجود.
الكتاب الذي یقع في 249 صفحة من القطع المتوسط یمثل في الآن نفسھ أربعة نصوص متوازیة ومتداخلة، بین الرحلة في المكان، والرحلة في الكتاب، أو التطواف المعرفي، والرحلة عبر السینما التي تمثّل الذاكرة البصریة، ورحلة النص الشعري الذي یشكل خلاصة التجربة المعرفیة.
والكتاب ھو رحلة النفس المتوقّدة لمعرفة الوجود من خلال المشاھدات، وتداعیات مماثلاتھا مما اختزنت الذاكرة لفھم ذلك الوجود المأساوي الذي یعیشھ الإنسان بین حدي الولادة والموت.
الشاعر سیف الرحبي الذي صدر لھ أكثر من عشرین كتابا في الشعر والنصوص والمقالةّ والرحلة وترجمت أعمالھ إلى العدید من اللغات، یركز في رحلاتھ لیس على القصور والعمارة والآثار والطبیعة، وإن كان یشیر إلیھا، بل یتوقف عند الھامشي منحازا للإنسان الذي كسرت روحھ تلك الماكنة المسننة التي تطحن الإنسان في دورانھا.
ففي بریطانیا یستعید تلك الامبراطوریة التي لم تكن تغیب عنھا الشمس، ویرتم بدایة في مطاراتھا التي لا تخفي ریبة من الآخر، وحینما یقیم فیھا تلفتھ حالة الناس الھامشیین واللاجئین الذین یبحثون عن حیوات توفر لھم مساحة من الصراخ أو الصمت.
یقسم الشاعر الرحبي الكتاب إلى سبعة فصول، تمثل خریطة الرحلة، وھي: ”في وصف رحلة.. شظایا بشر وأمكنة“، و“عن البلاد البعیدة والقریبة“، ”من صحراء الكوكب إلى أعماق الغابة“.
ومن الفصول أیضا، ”غروب آسیوي.. الحلم والمتاه“، ”المرأة التي یترجف في قلبھا الغزال“، ”في ضوء صباح آسیوي“، و“صالة استقبال الضواري“ الذي حملھ الكتاب عنوانا.
وفي المتون یحار القارئ أین یصنف الكاتب ضمن حقول الإبداع الذي یتعربش فیھ النثر على ساق الشعر، فتغدو الكتابة لوحة یتبارى فیھا الشعر والنثر على صفحة واحدة، لیشعرن الرحبي النثر، ویسرد الشعر.
فھو كتاب شعریة الأمكنة التي لا یتأتى جمالھا من صفة الموصوف، بل في الدھشة التي تتحقق من التفاصیل اللامتوقعة التي ینتبھ إلیھا الكاتب في المكان اللامتوقع، ولكنھ في الوقت یجمع ما اختزن من ثقافة ومعرفة وخبرة بصریة ومھارة تأملیة لوضع اللحظة في سیاقھا الإبداعي.
إن الكتابة لیست مجرد وصف، بل ارتحال في سیرة الأشیاء، ورصد حرنات التاریخ من خلال الإمساك باللحظات المؤلمة فیھ، والتي تنعكس على أرواح الناس الذین خرجوا من أتون الحروب، وما تزال غبارھا تلوث معاشھم على ابتعاد المسافة من مكان الجمر، وإمساك بلباب ما ترك التاریخ على الآخرین من وجع بعد عقود نتیجة ما أسس الاستعمار في تشویھ للعلاقات بین الناس.
فالكتاب، ھو قراءة في التاریخ غیر المكتوب عبر قراءة تجلّیات الھامشي في الحضارة التي كسرت في الإنسان طبیعتھ الإنسیة لیتمثل صورتھا المتوحشة.
ویتذكر الكاتب في باریس، عاصمة النور، رشید صباغي، وعلي بن عاشور، وصموئیل شمعون، الأكثر رأفةً ّ في التعاطي مع أولئك الذین انكسر بھم قارب الأمل في أول الطریق أو منتصفھ، فقطعوا بما یشبھ الط َّ لاق البات مع مجتمعات النفاق والاستھلاك.
ویكتب شعرا:
ّ ”الط ّ ائر یرف َ على وجھ الغْمر،
أكبر حجما من الغراب!
إنھ الغداف،
ّ یقرأ سورة الطوفان القادم“.
ویستذكر خلال ذلك حال دیستوفسكي مع الرجل المضطرب الذي لا یعرف مكان ھذا العالم الموغل في انحطاطھ القیمي والأخلاقي، الرجل المدفوع بتدفق المواقف والأحداث إلى جھة السب والارتباك، وتتداعى الذاكرة التي تستعید صدیقة الكاتب التي قضت انتحارا، وقالت لھ:“
ّ إنني أعرف كیف أتعامل مع كل ھؤلاء المنقوعین في سم الكراھیة والنمیمة والانحطاط، بالتجاھل“.
ویقارب الكاتب سیف الرحبي قصة الكلب الیاباني التي تحولت إلى فیلم سینمائي بعنوان ”ھاتش“، الذي یبقى فیھ الكلب وفیا لصاحبھ حتى آخر نفس من عمره، وھو ما لا یتحقق في عالم الإنس.
ویتذكر بیت شعر للأحیمر السعدي الذي یقول فیھ:
ُ »عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
ّ وصو ُ ت إنسان فكدت ُ أطیر... «
تلك ھي المناطق الوعرة التي یغامر الأدب والشعر والفلسفة بولوجھا، للاقتراب من النفس البشریة التي ینطبع علیھا صدأ المكان، ویقول الرحبي: ”أھل الأدب والفن لا یفعلون في صنیع الإبداع والجمال إلا استعادة فوضى الطفولة“. التي تعني البراءة وجموحھا للحریة والصدق.
وخلال ذلك یتذكر فیلم ”برسونا“ للسویدي انغمار برغمان وأنتج عام 1966 باللغة السویدیة، وھو من بطولة لیف أولمان وبیبي أندرسون الذي یناقش قضایا الجنون والفصام والھویة والوجود من خلال أسطورة مصاص الدماء. ویحاول المخرج فھم أعماق الإنسان في مواجھة نفسھ.
ویقرأ خلال واحدة من الرحلات روایة الفرنسي من أصول تشیكیة میلان كوندیرا التي تحمل عنوان ”حفلة التفاھة“ الذي یذھب فیھا إلى التأمل العمیق في الوجود والعالم ضمن صمیم بنیتھ..
حتى في أكثر المشاھد خرابا، ویخلص إلى ما إن إدراك البنى والمؤسسات التي تحكمنا بوصفھا سابقة لنا ولوجودنا، فھذا یعني أننا سنكون أسرى لقوانینھا التي تتحكم في سلوكنا، وھذه التي نسمیھا الإنسانیة، ھي بلا معنى لأننا نخضع لقھرھا وعنفھا الیومي الذي یرسم سلوكنا كما رسمتھ لنا وشكلتنا علیھ.
في الكتاب رحلة للتاریخ عبر جغرافیتي المكان الشاسع من العالم، والنفس بكل ما تنطوي على عمق وتعقید، ویقول الرحبي: “ حین ینظر المرء إلى كل ھذا الصخب القاسي والحطام، ویرى بما لا یقبل الشك، تواطؤ الأقویاء والضعفاء على إنجاز ھذه الفظاعات الشنیعة، یأخذه الدوار ٍ والألم إلى مھاو سحیقة لا یعود منھا إلا مضرجاً بالجراحات والأرق، إذ لا بد من البحث عن عزاء ما. عزاء ولو كان مؤقتاً أمام دیمومة المأساة“.
ویقول:
إن حیاتنا على الحافّة دائما
على حافة السریر ننام
ُ على شفا جرف الكون نعیش
على حافة جھنم تمضي صباحاتنا
والأماسي..
ّ ویقول الكاتب محمد محمود البشتاوي على الغلاف الأخیر للكتاب: “ إن َ ما یجعل المنجز
ّ قھ بحر ٍیة َّ لا تتقیُد
تھ، وجّدتھ، وتدفُِّ
ّ ھ، وصدقی
ّ الإبداعي لسیف الرحبي على ھذه الصورة، تلقائیتُ
َ بضوابط الأسلوب؛ فلا حدود َ للتعبیر ولا قوالب ّ جاھزة، لھذا لا یتردد الرحبي إذا ما تعلّق الأم بالتجریب وخوض غمار فضاءات تلین لھ وتنقاد بسھولة، فیما تستعصي وتنغلق على سواه.
ُی ِّعب ّ ر سیف الرحبي في نصوصھ الحر ِ یفة ھذه، عن ذاتھ ُ وعن العالم في آن، ویتداخل فیھا الخاص بالعام في ضوء تنوع عوالمھ واشتغالاتھ