عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Sep-2023

"بحر وتراب" الوثائقي.. ذاكرة اللبنانيين مع مآسي الحرب الأهلية اللبنانية

 الغد-إسراء الردايدة

 يستعيد الفيلم الوثائقي اللبناني "بحر وتراب"، فترة صعبة من التاريخ اللبناني، حين وقعت الحرب الأهلية وراح ضحيتها ما يقارب 120 ألف قتيل بين 1975 و1990.
 
 
الوثائقي اللبناني، الذي عرض أول من أمس في الهيئة الملكية للأفلام، يغوص في ذاكرة أهالي الضحايا اللبنانيين الذين فقدوا أحبتهم وما يزالون بانتظار جثثهم لتدفن بطريقة لائقة، نسمعها بأصواتهم وسط مشاهد الدمار والمدن والأحياء التي تغيرت معالمها وهجرها سكانها، وبقي رفات الجثث المفقودة، التي عبر عنها الروائي اللبناني إلياس خوري، الذي كتب نصاً افتتاحياً للفيلم بعنوان "البحر الأبيض"، وجسدت معاني الفقد والبحر الذي لم يعد كما نعرفه، حيث ابتلع الجثث وتحول للأسود وفاض بالأسى.
 
ينقب الفيلم في تاريخ العنف الذي طال لبنان إبان الحرب الأهلية التي نهشت أحياءه وخطفت الأحبة من بين أحضان عائلاتهم، حقبة الحرب الأهلية اللبنانية وتاريخ المقابر الجماعية، التي وثقتها شهادات صوتية أدلى بها أحباء الأشخاص المفقودين، حيث أجبر ما يقارب مليون شخص على الفرار من البلاد لتجنب مصير الذين قتلوا، فضلا عن عدد المفقودين الذين قدر عددهم بـ17000 شخص اختطفوا من قبل الميليشيات أو الجيش، وفقا للفيلم، وفيما تذكر تلك الحقائق والأرقام تتنقل الكاميرا وتعرض مشاهد للمدن وحالها اليوم وتسافر بالزمن في لمح البصر لواقعها وقت أحداث الحرب والدمار.
"اسمه البحر الأبيض.. هكذا نسميه بلغتنا.. نجلس على شاطئه اللامتناهي، نروي له حكاياتنا، ونستمع إلى حكاياته. يذيب أحزاننا باللونين الأبيض والأزرق ويرسم أفق علاقتنا بالسماء"، هذا التعليق الصوتي التمهيدي للروائي إلياس خوري كتب المناجاة الغنائية والرصينة للفيلم، حيث يمتلئ بالكآبة ولكنه مشوب بالغضب المتصاعد. وهي حالة عاطفية ليست غريبة على اللبنانيين، حتى اليوم.
من خلال الربط بين فظائع الحرب الأهلية اللبنانية والتقارير شبه اليومية عن اللاجئين الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط، يشير خوري إلى المصير الأبدي لهذا البحر باعتباره مقبرة جماعية. لقد أصبحت، على حد تعبيره، "مقبرة واسعة لا حدود لها... فتحت أحشاءها، مثل وحش أسطوري يبتلع الجثث".
في العقود الثلاثة منذ انتهاء الصراع الذي دام 15 عامًا رسميًا، ظل مصير لبنان، من نواح كثيرة، مرتبطًا بالطائفية والعنف السياسي والنزعة شبه العسكرية التي كرستها الحرب.
بعد أكثر من 32 عامًا، ما يزال يتم اكتشاف مواقع الدفن للجثث، أو في كثير من الحالات، لم يتم اكتشافها على الإطلاق: تحت الحدائق وتحت أرضيات المدارس وفي أعماق البحر. هذه القبور تسرد قصص أولئك الذين ما يزالون ينتظرون إعادة رفات أحبائهم الذين فقدوا أثناء إراقة الدماء.
الفيلم من إخراج دانييل روجو، الذي أنتج الفيلم إلى جانب كارمن حسون أبو جاود، ينبش الماضي من خلال قصص العنف، بينما يعرض ما يبدو أنه مشاهد يومية لأماكن في البلاد. لكن التنقيب عن تاريخ من العنف بهذا الحجم ليس بالأمر السهل. في لبنان، تمر الحرب الأهلية إلى حد كبير في المدارس، وتتوقف الكتب المدرسية عند النقطة التي انفصلت فيها البلاد عن الحكم الفرنسي في العام 1943. رغم كل ذلك، ما يزال بإمكان روايات المذابح، مهما كانت بعيدة، تأجيج التوترات القديمة.
القصص التي تم ذكرها صعبة وعنيفة وشهادة مهمة على عواقب الحرب الأهلية، حيث تمكن العديد من الجلادين من الابتعاد عن مسرح الجريمة دون عقاب، تاركين العديد من عائلات الضحايا دون أي معلومة تمنحهم بصيص أمل.. والأسوأ من ذلك، أن العديد من رجال الميليشيات في حقبة الحرب الأهلية هم اليوم سياسيون في الحكومة اللبنانية.
في بداية الفيلم، أول من تمت مقابلته هي أم لم تكن تعرف أن ابنها، طالب في الصف التاسع يُدعى ماهر، قد بدأ تدريبًا عسكريًا خلال الحرب.
كانت تأمل في إرسال ابنها إلى الخارج، لكن عندما تقدمت القوات الإسرائيلية نحو العاصمة، تتذكر أن ماهر "كان مقتنعًا بأنه لا ينبغي لإسرائيل الوصول إلى بيروت".
في 17 حزيران (يونيو) 1982، ذهب ماهر وآخرون إلى الجامعة اللبنانية. في المنزل، نظرت المرأة من نافذتها بينما اقتربت القوات الإسرائيلية ورأت ما يشبه "نيرانا حمراء تتصاعد ألسنتها إلى السماء".
وذهبت المرأة للبحث عن ماهر، ولكن بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الحرم الجامعي، لم يكن هناك مكان يمكن العثور عليه. عندما عادت إلى الحرم الجامعي في اليوم التالي، أخبرها أحدهم أن ماهر قد اختفى مع بقية مجموعته. وتمتد المآسي التي تروى في الفيلم إلى معظم أنحاء البلد، وفي بعض الحالات تنزف خارج حدوده.
تتذكر امرأة أخرى سماعها صرخات وأعيرة نارية من منزلها في أحد أحياء بيروت. كل يوم، كانت هي وآخرون في الحي يسيرون إلى مكان تُلقى فيه الجثث، فيما اليوم أصبحت البقعة أرضًا زراعية. على الرغم من استبدال التربة، تتساءل "من يدري ما تحتها؟".
ويصف أشخاص آخرون تمت مقابلتهم تجربتهم المباشرة في التعذيب. يتناوب رجل وامرأة على سرد الاستجوابات والضرب الذي تعرضوا له في المدرسة الأميركية في طرابلس، ثم عنجر ولاحقًا في سورية.
بعد استجوابها وتهديدها بالقتل وضربها بالكابلات الكهربائية، تشرح المرأة: "بدا الأمر كما لو كانوا يضربون بساطا بعصا".
كما تم إعادة سرد مذابح أيلول (سبتمبر) 1982 في مخيمي اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا، وهي من أكثر حالات العنف الجماعي الموثقة على نطاق واسع في زمن الحرب، من خلال النساء اللواتي فقدن أحباءهن.
وبينما كانت القوات العسكرية الإسرائيلية تحيط بالمخيمات، قامت القوات اللبنانية بذبح مئات من المدنيين. عندما عاد السكان الذين أجبروا على مغادرة المخيم، ووجدوا أدلة على المذبحة في كل مكان.
بالطبع، لم تتوصل جهود العائلات لتعقب الأدلة القوية على ما حدث لأقاربها إلى نتيجة، ويعتقد أن أكثر من 100 مقبرة جماعية منتشرة في جميع أنحاء لبنان.
في الواقع، لا يوجد راو من البداية إلى النهاية يهدئ المشاهد بحقائق غير متحيزة بنبرة جديرة بالثقة، كما هو الحال غالبًا في الأفلام الوثائقية التقليدية.
لكن اللافت للنظر أن الروائي اللبناني إلياس خوري يروي المقدمة الشعرية للفيلم؛ حيث يتحدث باللغة العربية بلهجة شامية طوال الوقت، بينما تضمن الترجمة الإنجليزية الممتازة عدم فقدان الفروق الدقيقة عن الجمهور الأجنبي.
وتلعب الذاكرة دورًا حاسمًا في تمكين الناس من النجاة من الإهانات التي تعرضوا لها وما يزالون يتعرضون لها. سواء من خلال الشعر والأدب أو الأفلام والأرشيف، أو حتى محادثة بسيطة، فإن كل ذكرى مشتركة هي بمثابة ذخيرة. إنه الشيء الوحيد المتبقي للمواطنين العاديين لمحاربة أمراء الحرب -فمعظمهم ما يزالون في السلطة، وإن كانوا سياسيين.
ليس البحر وحده هو الذي ابتلع الجثث. تقول امرأة لبنانية متأسفة: "أتمنى لو كان هناك قانون يمكننا من الحفر حول مراكز الاحتجاز، لأن هناك مقابر جماعية".
اليوم، بينما يعاني لبنان من أزمة اقتصادية معوقة، ومأزق سياسي ترك البلاد من دون رئيس وتصاعد جديد في كراهية الأجانب ضد السوريين واللاجئين الآخرين، فإن التربة والبحر يذكران بالأزمات السابقة التي تركت دون حل.
ويجسد "تراب وبحر" القول المأثور "الأقل هو الأكثر"، ويقدم الأصوات الوحيدة التي تهم في مثل هذا السيناريو- أصوات الضحايا،  من خلال الربط بين فظائع الحرب الأهلية اللبنانية والتقارير شبه اليومية عن اللاجئين الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط، يشير خوري "المعلق الصوتي" إلى المصير الأبدي لهذا البحر باعتباره مقبرة جماعية.