الدستور
المبادئ ليست حافلات، ليس من المفترض أن تقودك إلى أي مكان؛ المبادئ مهمّتها أن تُعرِّف من تكون- جينيفر كروزي، روائية أمريكية.
تضطلع السيدة فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، بمهمتها بشجاعة استثنائية، إذ أصدرت تقريرًا يدين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، مستندةً إلى قرارات محكمتَي العدل الدولية والجنائية الدولية. وقد تضمّن التقرير قائمة بستين شركة متورطة في جريمة الإبادة الجماعية، وحمل عنوانًا لافتًا: «اقتصاد الإبادة الجماعية». وسرعان ما ردّت الولايات المتحدة بفرض عقوبات صارمة ضدها، شملت حظر دخول أراضيها وتجميد ممتلكاتها، متهمةً إياها، على لسان وزير خارجيتها، بمعاداة السامية.
لكن هذه البطلة لم تنحنِ للعاصفة، بل وقفت شامخة في وجه الظلم. ظهرت في أبرز وسائل الإعلام العالمية، متحديةً القرار الأميركي، وساخرة من العقوبات التي وصفتها بـ»الفاحشة». ثم أعلنت بجرأة لافتة: «حين تهاجم القوى الكبرى من يدافع عن الضعفاء، فذلك ليس دليلًا على القوة، بل على الشعور بالذنب!»
شبّهت تصرفات الولايات المتحدة بأساليب المافيا، مستحضرةً إرث أجدادها الطليان الذين واجهوا المافيا في جزيرة صقلية، من قضاة وصحفيين دفعوا حياتهم ثمنًا لمواقفهم الجريئة. وأكدت أنها تسير على دربهم، مشددةً على أن العقوبات المفروضة عليها لا تساوي شيئًا أمام هول الكارثة الإنسانية المتواصلة في غزة.
وفي مشهد يُجسّد الانقسام الأخلاقي في العالم، أيّدت جميع المنظمات والهيئات الموالية للصهيونية قرار فرض العقوبات عليها، في حين أدانته المنظمات الإنسانية والحقوقية كافة، وفي مقدمتها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. أما المفوّض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، فقد دعا إلى إلغاء العقوبات فورًا.
لم يستند قرار العقوبات بحقها إلى أي أساس قانوني، بل كان فعلًا انتقاميًا صارخًا يُجسّد منطق البلطجة، بعد أن فشلت واشنطن في إقصائها من منصبها رغم ضغوطها على الأمم المتحدة. ويجب أن ندرك أن رفض الولايات المتحدة لأي اتهام يُوجَّه للكيان الصهيوني بارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة، ومحاربتها لكل قرار يشير إلى ذلك، لا يعود فقط إلى الدعم السياسي، بل لأن الإقرار بالجريمة يُعدّ ضمنيًا اعترافًا بتورّطها المباشر، وهو ما قد يفتح الباب أمام ملاحقة قادتها بتهم ارتكاب جرائم حرب.
لطالما أدّت الولايات المتحدة دور «شرطي العالم»، مستخدمةً المنظمات الدولية أدواتٍ لخدمة مصالحها. لم ننسَ بعد حربها على العراق بتفويض أممي، ولا تدخلها في ليبيا وتغيير نظام الحكم تحت غطاء الأمم المتحدة. وفي المقابل، استخدمت حق النقض خمس مرات متتالية لتعطيل أي قرار يدعو إلى وقف الإبادة الجماعية في غزة. وحين تُصدر المؤسسات الدولية قرارات لا تنسجم مع أهوائها، لا تتردد في دهسها كما تدوس على القانون الدولي. هي التي طالما صدّرت للعالم شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها فقدت في غزة آخر ما تبقّى من مصداقيتها.
تتعرّض السيدة فرانشيسكا ألبانيزي منذ سنوات لضغوط هائلة. وتقول شقيقتي، التي تقيم بجوارها في تونس، إن فرانشيسكا تجد هناك شيئًا من السكينة، في بلدٍ تعيش فيه القضية الفلسطينية في وجدان الشعب، فتضافرت جهود الجيران والحكومة لتوفير الحماية الأمنية لها. ومع ذلك، تعيش في ظل قلق دائم ورعب مستمر، خوفًا على حياة أطفالها، إذ تتلقى عشرات الرسائل التي تتضمن تهديدات مباشرة لها ولأسرتها، بل تُرسل إليها صور لأطفالها وهم في المدرسة أو برفقة أصدقائهم، بأسلوب لا يختلف عن مشاهد أفلام المافيا.
وفي أحد اللقاءات، روت فرانشيسكا لشقيقتي أصعب موقفٍ مرّت به، حين مُنعت من دخول الولايات المتحدة لإلقاء محاضرة في إحدى جامعات نيويورك، بذريعة عجز الأجهزة الأمنية عن تأمين الحماية اللازمة لها. وكان ذلك بعد أن حرّك اللوبي الصهيوني هناك حملة شرسة ضدها، قلب فيها الرأي العام وحرّض المدنيين، حتى استُؤجرت جميع الشاشات العامة في تايمز سكوير لعرض صورها واقتباسات تُتهم فيها بدعم «الإرهاب» وأخرى تصفها بأنها «معادية للسامية»، فباتت هدفًا سهلاً ومتاحًا للجميع.
تعيش السيدة فرانشيسكا أمومةً صعبة، إذ تستيقظ كل صباح مذعورة، تركض إلى غرفة نوم أطفالها لتتفقدهم مرارًا. وفي لحظة إنسانية من ضعف الأم، تتساءل: هل تسلك الطريق الصحيح؟ فيُمسك زوجها، ماسيمليانو، بيدها ويواسيها قائلًا بثقة: «لو لم يكن صوتك مسموعًا، لما تعرّضتِ لكل هذا الضغط.» فتستعيد قوتها وتمضي بثبات في دربها، بل وتصدر كتابًا باللغة الإيطالية بعنوان: «حين ينام العالم: قصص، كلمات، وجراح من فلسطين.»
ومع تصاعد الحملة ضدها، تقرر فرانشيسكا ألا تتراجع، بل تواجه التهديد بالتحدي، فتُطلق حملة عالمية بعنوان «لنَقِف معًا»، تلقى تعاطفًا واسعًا حول العالم، وتتبناها عريضة شعبية دولية ترشّحها لجائزة نوبل للسلام، محوّلةً العقوبات المفروضة عليها إلى وقود جديد لنضالها، كاشفةً الهوّة العميقة بين الأنظمة الغربية وشعوبها، التي باتت أكثر وعيًا وجرأة في الدفاع عن الحق.
تحية إجلالٍ وإكبار لهذه السيدة العظيمة، لشجاعتها وصلابتها في نصرة أهلنا في غزة، ولإصرارها على مجابهة الظلم، مهما كان الثمن.