الدستور-عبدالرحيم جداية
لقد اختلف في مفهوم وحدة الوجود عند الفلاسفة وعلماء الكلام، كما اختلف في مفهوم الوحدة المعتزلة والأشاعرة وأما مفاهيم الوجود فمتعددة، وهي ليست موضوع الدرس بقدر ما تكون رافدا فكريا للغوص في دراسة سؤال اللاجدوى في الوجود في ديوان «وأقبل التراب».
سؤال اللاجدوى هو مقلوب سؤال الجدوى في الوجود، فالجدوى غالبا ما ترتبط بالاقتصاد، وهي عملية جمع المعلومات، والبيانات، وتحليلها، لمعرفة إمكانية تنفيذها، وما تقدمه من فائدة بهدف الربح، فاللاجدوى تعبير عن الخسارة، إذا لم يحقق الوجود الفائدة المرجوة حسيا وشعوريا وأخلاقيا عند الشاعر عمر أبو الهيجاء، في ديوانه «وأقبل التراب» الصادر عن منشورات وزارة الثقافة عام 2018م.
هل يبحث الشاعر في ديوانه عن جدوى اقتصادية، أم أنه سؤال الوجود الفلسفي، الذي يبحث في قيمة وجودنا على الأرض خلفاء فيها لنعمرها؟
الشعور والبحث الإنساني هما اللذان يحققان الجدوى في القصيدة، والواقع والغيب هما طرفا معادلة الوجود الإنساني، والتي تحمل قيمتها في الروح، والنفس، والذات، التي تمثل أدوات غيبية نرصد ما ينتج عنها، ولا نعرف كنهها أو كينونتها، فما العلاقة الجدلية بين الوجود والغيب؟
والمقابل الحسي الذي نستقبل به الوجود بحواسنا الخمس، وما تحرك هذه الحواس من مشاعر تكون عاطفتنا تجاه الأشياء في الوجود، تجاه الحجر والشجر، تجاه الأرض والإنسان، تجاه الوطن المسلوب ليعيش الشاعر المنفى قسرا، تفصله حدود وهمية بين فلسطين والأردن، ويربط بينهما معبر.
الذي عاش تجربته شاعرنا في أول قصائد ديوانه الحادي عشر «وأقبل التراب» في قصيدة: (عند المعبر) من صفحة (21-32)، حيث بدأ رحلته مع الشعر عام 1989م في ديوان (خيول الدم).
جاءت دواوينه تباعا في «أصابع التراب» إلى «بلاغة الضحى»، وديوان «ويجرحني الناي» في مرحلة شعرية تجريبية لم تكن الجدوى بارزة وربما كانت مضمرة أو متأينة لم تشكل عنصرا موجودا في سؤاله، واللاجدوى لم تكن في معادلته الشعرية البلاغية الفصيحة، في قصيدة النثر التي حلق في فضاءاتها، حتى خلق فضاءه الشعري المنقسم بين الجدوى واللاجدوى، وكذلك بين الوجود والواقع، والواقع والغيب الذي كشف سره الشاعر عمر أبو الهيجاء، عندما تعدى المعبر بين المنفى والوطن.
في المنفى كان يحلم بالوجود في أرض فلسطين، في المنفى كتب قصائد تحمل أسئلة الوجود بعيدا تحمل الجدوى واللاجدوى، لأن الوجود الفلسطيني لجغرافيا فلسطين كان قصة يسمعها، أو صورة تشعل الحنين والمشاعر لوطن غيبي لم تدركه حواس الشاعر عمر أبو الهيجاء، إلا عندما سجد على تراب فلسطين عام 2013م مقبلا تراب القدس، ليستيقظ الوجود ويتطابق مع الواقع فاكتملت رؤيا الشاعر بين الوجود والواقع في معادلة الواقع والوجود مع الغيب.
ما جدوى الوجود دون واقع يعيشه الشاعر؟
آمن الشاعر بوجود فلسطين إيمانا غيبيا، فكيف لا يكتمل إيمانه عندما أدرك أنفه هواء فلسطين، وسمع وقع الأقدام على ترابها فمارس المشي واقعا معيشا، والعين تطوف
في كل ذرة من الوجود الفلسطيني، فيقول:
«عند المعبر
رأيت البلاد
وفي أقصى خاصرة التلال
ثمة صراخ دفين
ثمة أجداد لنا
نائمون في فراش الأرض»
ليصرخ سؤال اللاجدوى، كيف لهؤلاء الأجداد أن يهنأ نومهم، وأحفادهم في المنفى والشتات، فالصراخ دفين في صدور الأجداد، لكن صراخ الأحفاد يتعالى ألما في ضمير اللاجدوى من دفن في بلادهم المحتلة المغتصبة، هذا الاغتصاب الذي يرفضه الضمير النقي، الذي تفتق لاجدوى في ضمائر أمم دفنت رؤوسها في التراب.
حينها فقط عرف الجدوى والواقع في ثنائية تكسر قوالب اللاجدوى التي عاشها في قصيدة المعبر حين قال:
«يمر حولنا الجنود
تأخذهم الرهبة من طلقات العيون
جنود متمترسون خلف بنادقهم
منتفضون يطويهم رعب
وأسئلة اللاجدوى في الوجود»
اللاجدوى سؤال الجسد، والجدوى سؤال الروح، فقصيدة (عند المعبر) قصيدة روحانية في عشقها للوطن السليب، تحرك جسد الشاعر لكن روحه التي عاشت الرحلة بعد المعبر، فالجسد عاش المنفى قبل المعبر، واستيقضت الروح بعد المعبر لتحلق ما وسعها التحليق، وقد تجسد سؤال الروح صريحا في قوله:
«كيف لي
أن أكحل نوافذ الروح
بحبر الليل
والبياض يلفه غراب الوقت»
سؤال الروح في ديوان وأقبل التراب للشاعر عمر أبو الهيجاء توهج في لغة القصيدة، تلك اللغة السلسة المطواعة، اللغة البكر اللينة التي أبدعها لوجود بكر في فلسطين، وولادة جسدت اللاجدوى جدوى وأمل، فطلب صراحة أن يكحل نوافذ الروح، لأن الروح التي في الجسد لا ندرك نوافذها، ليطلقها الشاعر نافذه في الكون الفسيح، ولم تقف اللغة بعيدا عن التقابل الجمالي بين الأبيض والأسود الذي تمثل في الغياب في حبر الليل.
اللغة وعاء فسيح لتفسير الجدوى، في صورة فنية مدهشة طازجة، جمع فيها بحرفية المبدع تلك الروح البيضاء، التي يلفها غراب الوقت، ليجمع سوادين في لفظين دالين هما: (الليل والغراب)، فالغراب عودة لنشأة الروح في آدم عليه السلام، والغراب سلب روح هابيل، ليبقى الغراب شاهدا على الروح التي تسكن الجسد، وتهجره في صورة فنية متألقة أبدعها الشاعر عمر أبو الهيجاء.
اللاجدوى مجموع الهزائم والجراح، واللاجدوى أمل ضائع خلف السياج، فقدان الحلم هو اللاجدوى، والسقوط في الوهم بعيدا عن حقيقة الوجود هو اللاجدوى، عندما يضمر الخيال تنبت اللاجدوى في القصيدة والحبر والقلم، فالرجوع إلى الخلف والقهقرى لا جدوى معيبة، عندما نفقد البوصلة ونفقد الجهات يعيش الشاعر بحسه، وشعوره، وعقله، وضميره، معاني اللاجدوى والتى تمثل معادلا فنيا للقهر الذي تعيشه القصيدة.
فما جدوى الحياة إن هشمت القصيدة؟
أليس الموت أولى، والفناء أرفع منزلة من واقع مهزوم لم يتعرف إلى الوجود إلا بما يتخيله الشاعر، فأسئلة اللاجدوى أولى بهذه الحياة التي تبحث عن العدم، وهي الأولى بكل بقعة سوداء سلخ منه نهارها، فهل للشاعر أن يعيش الوجود دون واقع يدله على جدوى وجوده؟
لا تقف أسئلة اللاجدوى عند الغيب والوجود، ولا تقف عند الفناء والعدم، لا يقف السؤال حول حركة المعلوم إلى المجهول إن كان الوجود واقعا معلوما حقا، فاللاجدوى تقف على أبواب الظن المنفتحة على الشك الذي لا يصل إلى اليقين حتما، هذا إذا عرفنا اليقين في فوضى الظن والشك بعيدا عن الاعتقاد الذي يخرج من دائرة الإيمان أحيانا إلى صور التوجس والالحاد.
ومن صور الظن في ديوان وأقبل التراب قوله:
«هنا فلسطين
كأني ماء بلل عشب الأغاني
أمنح كل مواسم اللحظة
ملح البارود
وأسقط صوف النعاس
في جفون الأرض»
«هنا فلسطين» توكيد لفظي افتتح بها كل دوائر قصيدة (عند المعبر)، وهذا التوكيد ملحق بلفظ الأرض المؤشر إلى واقع معاش، كما يلحق لفظ الجفون التي تدل على الإنسان وكل من يرى ليتحقق من هذا الوجود، حين جاور في تركيب (جفون الأرض) على الجزء الدال على الكل في الجفون، ويدل على الكل في لفظ الأرض التي تحوي الجزء، وكأن الشاعر يعيش نظرية (الكشتالت)، حيث الشكل والفراغ.
فإن نظر إلى الشكل سقط الفراغ، وإن نظر إلى الفراغ سقط الشكل، وهذا ما أدخل الظن والشك في روع الشاعر، الذي يبحث عن كلية الشكل والفراع ليحقق الوجود واقعا معاشا، يستثني منها نظرية العشوائية والفوضى واللاجدوى عبورا إلى ذلك الماء الذي يبلل عشب الأغاني في فنية الشاعر والمتأمل.
نعم هو التأمل الذي ينشده شاعرنا من أسئلة اللاجدوى لإثبات الوجود في قوله:
«عند المعبر
هناك على بعد أغنيتين
قلت .. أريحا.. أريحا
تدلى الجسد في نهر التأمل»
هل يفضي التأمل إلى ولادة جديدة؟
التأمل والذاكرة والسؤال كلها أدوات ولادة فكرية، نظمت في خيط الشعر والقصيدة، فهو ذاكرة أبيه حين يقول:
«أنا ذاكرة أبي
أحرسها»
ويؤكد على قيمة الذاكرة بقوله:
«هنا.. رأيت
شباكا معدة لاقتناص أصابع
تلوح لضوء آت
من غبار الذاكرة»
فهل هزلت الذاكرة بعد عقود من الاغتصاب؟
فالغبار دخول الخيل في الميدان، والروية تتضح، والضوء آت، فلا مُضمرٌ إلا لجدوى الوجود والواقع في ولادة ترمم ما تبقى من حلم، ويؤكد ذلك قوله:
«هنا فلسطين
حملتني الحروف
وما ملكت يداي
كي أرمم ما تبقى من حلم
في رحلة الولادة».
الوجود والواقع المكاني
برز البحث بالوجود المكاني في قصائد ديوان وأقبل التراب في مواضع عدة من الديوان، ولربما تكون قصائد الديوان بكليته بحثا وجوديا واقعيا في المكان، حيث فلسطين خارطة الوجود والواقع، وما عداها لا جدوى.
فالتراب وجود مكاني تجلى في عتبة الديوان، هذا التراب المقدس الذي يقبله الشاعر في كل سجود مشكلا جدوى من وجود التراب الذي يأخذ قدسيته من نظرتنا له، وكما التراب فإن المعبر وجود مكاني تأتي جدواه عندما يشكل حلقة الوصل بين الوجود والواقع، بين المنفى والوطن، فأريحا وطن ووجود أقسم به الشاعر وبنخله وسعفه.
وتأتي قصيدة (قلنديا .. الحاجز) ثاني قصائد الديوان، حيث قدم قلنديا الوجود المكاني على فعل اللاجدوى، حينما يتحول المكان الأليف إلى مكان مُعادٍ كما ذكر باشلار في كتابه شعرية المكان، هذا الفعل المعادي الذي يحجز الداخلين إلى القدس من شمالها فاصلا بين رام الله والقدس، وهذا الفعل الإسرائيلي المعادي بأدواته التي تخضع صاحب الحق الفلسطيني للتفتيش قبل الدخول إلى القدس، وقد أقيم الحاجز ضمن جدار الفصل عام 2000م بعد الانتفاضة الثانية من أجل تحرير فلسطين من القبضة الصهيونية.
وكما استهل عمر أبو الهيجاء ديوانه بقصيدته (عن المعبر) استهل قصيدته (قلنديا.. الحاجز) بقوله:
«قرب الحاجز
كان الليل مثل قط أسود»
لنجد ظرف المكان (عند و قرب) يأخذان دلالة المكان التي حولت الوجود إلى واقع متحرك دون ظرفي زماني، وذلك لأهمية المكان في القصيدة ومؤشر ذلك قوله:
«الدرب يأكله النعاس
والمهرولون بمحاذاة الجدار
يعودون لمنازلهم منشدين»
لتأتي ظروف المكان معبرة عن الحاجز والجدار والمنازل التي تحمل قيمة دلالية من منزلة، لنعرف في أي منزلة ينزلون، ولم يقل البيت حيث تبيت البشر والماشية، ولم يقل الدار التي تدور بساكنها، بل اختار المنازل جمع منزلة،
وكما استفاد من الغراب للتعبير عن الليل، أعاد التركيب في قوله: كأن الليل قط أسود مقدما عمر أبو الهيجاء مهارات لغوية تركيبية ذات دلالة واحدة بأساليب فنية متعددة، محلقا في الصورة الفنية المتلونة حسب الحالة النفسية والدلالة التي يقدمها الشاعر.
ويستمر ظرف المكان في قوله: قرب الحاجز ، تأكيدا على ثيمة المكان المعادي بفعل خارجي، هذا الفعل الذي حول المكان إلى حافلة وحفر بقوله:
قرب الحاجز
الحافلة تزحف بنا
من حفرة إلى أخرى
في بقايا قلب جمر
كأن الطريق تفر أمامنا
تتدحرج ككرة متقدة
تتهيأ كي نمر إلى قلب الوطن
ونغرق في فسيفساء قلنديا
صورة لا ينشئها إلا شاعر فنان خبر المكان وأثره على الروح الشاعرة التي ثارت في حروف عمر أبو الهيجاء، مواصلا تثوير اللغة في فسيفساء قلنديا عبورا إلى قلب الوطن، حيث المكان مشبع في السواد «غراب، قط أسود، ورام الله.. الأسود»
ما كل هذا السواد الذي بثه الواقع المرير في وجود كان أبيض؟
في قصيدة (رام الله.. الأسود) يتخلص الشاعر من ظرف المكان (عند و قرب) ليعبر رام الله متكئا على غيمة الغريب الذي قطعته المنافي المتجددة في التاريخ من قرطبة إلى بغداد، فيقول:
أعبر إليها
متكئا على خيمة
ونشيد قرطبي الدم
أحدث أبوابها
أقطف شموسا مغبرة
خلف المعابد والساحات
أدور معتذرا للأسود في الميدان
ديوان وأقبل التراب للشاعر عمر أبو الهيجاء يمثل منحنى جديدا في تجربته الشعرية الإيقاعية الغنية بالتفعيلات وتدويرها دون خلل في الإيقاع العروضي، مشكلا موسيقاه التي حملتها لغته العلوية بمفرداتها وألفاظها وتراكيبها وجملها ونسيجها الشعري الجمالي حين تخلى الشاعر عن عبء الجسد وحلق بفكره وروحه الشاعر محققا لذة الشعر في الكلمات، خارجا من اللاجدوى إلى الجدوى، متمسكا بالوجود والواقع في هيئة وجودية شاعرية قادرة على نقد الواقع بخفة ورشاقة.
هذا المنحى الشعري التصاعدي تطور مع تجربة الشاعر عمر أبو الهيجاء الذي لم يؤمن بالقيم المتطرفة التي جعلت من الوجود لا جدوى، ومن الواقع عشوائية وعبثٍ وفوضى، رفض الشاعر كل ذلك ليزرع في عالم المثال ديوانه: وأقبل التراب حيث يقبل المقدس الطاهر من التراب في كل سطر شعري بعث فيه الروح والحياة، ليعبر في جسده وروحه المكان أليفا جاذبا بقصيدته التي ارتقت مع نضج التجربة الشعرية الفنية والجمالية مقبلين التراب.
ونختم بالسؤال، ما جدوى المنفى إن لم يكن أكثر رحمة في وجود عرف التشتت والضياع؟
فهل نبحث في المنفى عن منفى جديد، وما جدوى المنفى إن فتح أبوابه لمناف أخرى؟ حقا أننا نعيش حالة اللاجدوى في وجود تمثل واقعا في كل لمسة من حياتنا لنمضي لعدم، علّنا نفك شيفرة اللاجدوى.
* «قدمت الدراسة في حفل توقيع ديوان «وأقبل التراب» للشاعر عمر أبو الهيجاء بتاريخ 24/11/2018م بالتعاون مع ملتقى اربد الثقافي ورابطة كتاب اربد»