الغد
في مقالي السابق تحت عنوان (الوطنية حجر الأساس) أشرت إلى أن أهم وأقوى مقومات الصمود أمام التحديات الخطيرة التي تمر بها المنطقة هي الانتماء الوطني الصادق والعميق بكل ما يتطلبه من وعي لفهم طبيعة التطورات وكيفية التغلب عليها، وترسيخ قواعد الأمن والاستقرار، ومواصلة مسيرة الإصلاح والتطوير والتحديث.
غالباً ما نعتقد أن الانتماء الوطني والهوية الوطنية مسألة محسومة وغير قابلة للنقاش، وأنا مع هذا الرأي إذا كان الهدف منه إثارة الجدل وإعادة التعريف وفق معايير مختلفة، أما إذا كان الهدف منصبا على تفعيل حيوية ودلالات الهوية وقوتها على مواجهة التحديات والأجندات المشبوهة فالأمر يختلف تماماً، ويصبح مطلباً يقع في صلب مفهوم الدولة الراسخة والثابتة التي تعرف كيف تحافظ على استقلالها ودورها ومكانتها الإقليمية والدولية، وعلى منجزاتها ومكتسبات شعبها، وتفتح السبيل أمام طموحاته ومستقبل أجياله!
وكما هو الحال فيما يخص الفهم الدقيق لمعاني الانتماء الوطني فإن فهم معاني الهوية باعتبارها روح الوطنية كذلك أمر ضروري لأنه يشكل الرابط القوي الذي يجمع بين الشعب أو الأمة الواحدة والخصائص والسمات التي تتميز بها، وترفع من شأنها وتقدمها وازدهارها، وارتباطها كذلك بالعوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من أواصر العلاقات الإنسانية والأخلاقية والعقدية الممتدة إلى الأصول والفروع عبر زمن تلتقي فيه على مبدأ وحدة الهدف والمصير!
كان الأردن وما يزال جزءاً مما يعرف تاريخياً ببلاد الشام التي تضم سورية ولبنان وفلسطين أو ما يعرف كذلك بسورية الكبرى منذ الثورة العربية الكبرى التي سعت إلى إقامة المملكة الهاشمية فيها، وكان الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين- طيب الله ثراه- يناضل في سبيل ذلك الهدف الذي واجه معارضة إقليمية ودولية حتى يوم اغتياله المشؤوم، ولكن الهوية الوطنية الأردنية ولدت أساساً من رحم الهوية القومية التي قامت من أجلها الثورة ومشروعها النهضوي.
عندما يكثر الكلام عن الشرق الأوسط الجديد، وعن مستقبل المنطقة في ضوء التطورات القائمة منذ شهر أكتوبر 2023، فإننا مطالبون جميعاً باستنفار عناصر قوتنا الكامنة والظاهرة ومنها هويتنا الوطنية خالية من أي (قوسين) وانتماؤنا الوطني بكل ما في المعنى من عاطفة وعقل وضمير، ليس من أجل الانغلاق على ذاتنا وإنما من أجل إشعال جذور الهوية القومية المشتركة في مواجهة المشاريع التي تستهدف ضربها وتفتيتها، ومن هنا فإن بلدنا الأردن أظهر دائماً قدرته على تشكيل الموقف الذي يحفظ له ولامتداده القومي وخاصة تجاه الشعب الفلسطيني مصالحه الوطنية والقومية وطموحاته المشروعة.
مرة أخرى هذه مهمة أحزابنا الوطنية قبل غيرها، وما عملية التحديث السياسي التي وضعت قواعد وجودها ودورها إلا من أجل تفعيل حيوية القوى الشعبية الحيّة في بناء الدولة الأردنية الحديثة القادرة على التقدم إلى الأمام بقوة وثبات، والمسؤولية والواجب في مثل هذه الظروف يمتد إلى فضاءات التربية والتعليم والثقافة والإعلام وهيئات المجتمع المدني وغيرها، فالمنطقة على ما يبدو تقترب من مرحلة إعادة التأهيل قبل التشكيل، ونحن على يقين بأن الأردن الذي حفظ نفسه من اللعبة في أولها هو اليوم أقوى وأصلب بكثير من أن يكون جزءاً من سيناريوهات وترتيبات آخرها، إن كان لها آخر.