عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Dec-2019

الاغتراب الفلسطيني الجديد - مقداد درويش
 
الجزيرة - ينامون على قارعة الطريق، معلنين استمرارهم في اعتصامهم حتى صرف رواتبهم المقطوعة منذ ما يزيد عن عشر سنوات، هذا هو حال الأسرى المحررين المقطوعة رواتبهم قبيل انتهاء اعتصامهم، وذلك قبل أيامٍ قليلةٍ مضت من تاريخ كتابة هذه الكلمات، حيث عاشوا فترة اغتراب قاربت الشهر والنصف!
 
عند النظر في طبيعة هذه الفئة المعتصمة في شوارع رام الله، نرى بأن هؤلاء الأشخاص قد أمضوا فترات طويلة ومتفاوتة في السجون، ولهم سجلهم النضالي في مقارعة الاحتلال وانتمائهم السياسي المعروف. ولكن الشاهد في الأمر هو حالة الاغتراب، والهشاشة وضعف التضامن من محيطهم الفلسطيني الداخلي مع مطالبهم العادلة والتي لا تتعدى كونها حقوقًا بسيطة تتطلب من مؤسسات السلطات معاملتهم مثل سائر الأسرى المحررين من الفصائل والتنظيمات الأخرى في هذا الشعب، ولا يخفى على الجميع وجود المكايدة السياسية في هذه القضية.
 
إن النظر إلى طبيعة المتضامنين مع هذا الاعتصام في شوارع رام الله، تؤكد لنا بأن الشريحة الأكبر من المتضامنين لم تكن سوى مجموعة من الأسرى المحررين الآخرين، وأشخاصًا من دائرة التأثير في العلاقات الشخصية والسياسية للأسرى المعتصمين، وهذه الظاهرة تحتاج منّا أن نعيد النظر في طبيعة هذا "الفلسطيني الجديد" الذي شكل في سلوكه حالة اغتراب جديد إزاء قضايا الوطن، حيث تسعى مختلف السياسات الداخلية والخارجية إلى صقله بصورة تُفرغه من مضمون انتفاضته على المحتل.
 
شكلت انتفاضة الأقصى الثانية تراجعًا كبيرًا للاغتراب الذي كان يطل برأسه في السنوات السابقة، وقد امتلأت شوارع المدن الفلسطينية بالمقاومين المشتبكين مع الاحتلال، وخاصة أثناء الاجتياحات الصهيونية للمدن في الضفة الغربية
عاش الفلسطينيون اغترابًا من محيطهم العربي الرسمي بخصوص قضيتهم، ولكن مؤخرًا، نشأت حالة من الاغتراب الجديد في داخل فلسطين نفسها، وفي الضفة الغربية المحتلة بصورة أكثر تحديدًا. فخلال فترة السبعينات إلى أواسط الثمانينات، فتح الاحتلال باب العمل للفلسطينيين في الداخل المحتل على مصراعيه، وهو ما انعكس أثره على الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في هذه المناطق.
 
نتيجةً لهذه "الانفراجة الاقتصادية" إن أمكن القول، فقد كان التأثير سلبيًا على مجمل جبهة المواجهة مع الاحتلال حينها، وقد استمر هذا التأثير يزداد سلبًا حتى جاءت انتفاضة الأقصى الأولى، وهو ما شكل دفعةً قويةً لخط المواجهة مع الاحتلال، مما جعل حالة "الانفراج الاقتصادي" المتوهّم تتراجع وسط ارتفاع وتيرة المواجهة، وهو ما أثّر ايجابيًا على أجواء الانتفاضة عمومًا.
 
لاحقًا، عمل الاحتلال على قمع هذه الحالة النضالية الموحدة في الانتفاضة الأولى، وكانت إحدى الوسائل المتبعة في سبيل ذلك هي وجود جسم مؤسساتي فلسطيني يدير شؤون هذه المناطق المنتفضة، وقد كان أوسلو تتويجًا لذلك. حيث كانت فيه مأسسة لحالة اغتراب فلسطيني جديد سيعيشه مقارعوا الاحتلال مستقبلًا. بدأ هذا الاغتراب في تسعينات القرن الماضي وامتد حتى بداية الألفية الجديدة.
 
وقد شكلت انتفاضة الأقصى الثانية تراجعًا كبيرًا للاغتراب الذي كان يطل برأسه في السنوات السابقة، وقد امتلأت شوارع المدن الفلسطينية بالمقاومين المشتبكين مع الاحتلال، وخاصة أثناء الاجتياحات الصهيونية للمدن في الضفة الغربية كرام الله ونابلس وجنين والخليل. الأمر الذي استدعى تدخلًا جديدًا من طرف الاحتلال لتهدئة الحالة، ومما لا شك فيه بأن الفوز غير المتوقع لحركة حماس بالانتخابات التشريعية والمجالس المحلية لن يخدم حالة التهدئة المنشودة من طرف الاحتلال، إلى أن برز "رجل أمريكا" بالنهج الجديد.
 
يصف أحد محرري مجلة Slate الأمريكية سلام فياض بأنه "يفضل أطقم Brooks Brothers والسيجار الغليظ على الكوفيات والكلاشنكوف"، وهو ما يحمل إشارةً واضحةً إلى طبيعة هذا الشخص، والنهج الاقتصادي الذي انتهجه. حيث عمل حثيثًا على زيادة تدفقات أموال المانحين والمستثمرين بعد نضوبها خلال فترة تواجد حماس في مؤسسات السلطة.
 
لبست رام الله وجهًا جديدًا منذ تلك الفترة بشكل واضح، وجهٌ يبعد فكرة المواجهة مع الاحتلال جانبًا، ويضع مكانها فكرة "العيش الطيب"، وهو الوصف الذي أطلقه صاحب سلسلة فنادق الموفينبيك العالمية أثناء افتتاحه للفندق في رام الله، هذا الفندق الذي تشعرك مرافقه بأنك في إحدى فنادق أوروبا أو أمريكا، ولكن سرعان ما يعكر صفو هذا الشعور تكدس الفلسطينيين على حاجز قلنديا العسكري على مسافة ليست بالبعيدة عنه، أو بشكل أبسط، غياب بوظة الموفينبيك الخاصة والتي تشتهر بها سلسلة فنادق الموفينبيك حول العالم، والتي لن تجدها في قائمة طعام هذا الفندق، وذلك ببساطة؛ لأن الاحتلال لا يريد ذلك!
 
أصبحت رام الله تعيش "وهم الحالة السويّة"، تلك الحالة التي تم فيها "استبدال ملصقات صور شهداء الانتفاضة التي كانت تغطي جدران وسط المدينة في أول أعوام الألفية الثالثة بلوحات دعائية تروّج للتسليف العقاري". وهو توصيف الصحفي بانجمين بارت المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، والذي سكن في رام الله لسنوات عديدة، حيث كان يعمل في صحيفة اللوموند الفرنسية
 
لا زالت هذه السياسات تحاول ولو بصورةٍ بسيطة أن تعمل على تكوين جديد داخل الشباب الفلسطيني، حيث تعمل ظروفٌ متعددة على تشكيل النمط المطلوب من الإنسان الفلسطيني لكي يكون مواطنًا صالحًا في بلاد "العيش الطيب"، وهنا؛ لا يجب إغفال تشكلات الفردانية والتمحور حول الذات، في إضفاء روح الخوف واللامبالاة داخل سلوك أصحاب هذا النمط، وذلك تجاه قضايا فلسطين وكل ما من شأنه أن يضع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.