عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-May-2020

"عطور يتيمة" لـ عطاالله الزبون ..نص روائي يعاين القرية الأردنية

 

الراي - سليم النجار - حين عرضت مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" في روما عام ١٩٢١؛ أثارت ضجة
كبرى، وانقسم الجمهور ما بين منبهر أدرك وساخط لم يدرك. وكانت المشكلة الحقيقة هي المحور الأساسي الذي ارتكز عليه المؤلف لويجي بيرندلو، حيث عالج في الكثير من أعماله موضوع الوجه والقناع، الحقيقة والخيال، الصدق والوهم، والإخلاص والتصنع، ليفعل ما سبق فعله الفيلسوف سقراط، الذي قيل إنه انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض كذلك فعل بيرندلو حينما جر الفلسفة إلى خشبة المسرح، وعالج في ثلاثنية "المسرح داخل المسرح" مسألة أي العالمين أشد حقيقة: الواقع أم الخيال، المادي الزائل أم الإبداع الفني الباقي، الحيثية الاجتماعية الفانية أم الشخصية المسرحية الخالدة. ورواية "عطور يتيمة" للكاتب عطااالله الزبون تُعيدنا لذكريات هذه المسرحية مسألة البحث عن مؤلف، وبما أن كلّ شيء قصّة، الروائي والكاتب التونسي الكبير محمود المسعدي ومؤلف رواية "السد"، ولن تكون القصّة صادقة إلاّ بالوصول إلى القبر.
درس أخر في معرفة التفريق بين الحقيقة والخيال في القصة التي تتحول لرواية، كرحلة من رحل القصة، وهذا ما نلحظه في سرد الزبون، (كم كانت الطيبة، والإنسانية، وجمال الروح)، في قرية يتدفق منها نبع ماء إلى جانب ينابيع محبه عندما تم جمع مبلغا من المال من المقتدرين كل حسب طاقته، ومنهم أمي لإعادة فتح الدكان لكن وعند رفض ابومحمود ذلك قالت أمي:
"يا ابومحمود نحن بحاجة إلى الدكان أكثر منك ؛ فهل لك أن تخدمنا تلك الخدمة ؟ فأننا لا نستطيع أن نذهب كل يوم للمدينة، عندها قبل أبومحمود الدكان ص١٧."(
هي رحلة من رحلات كثيرة قام بها الزبون في روايته، كانت تروم تحصيل المعنى الهارب المتمنّع. بحث الرواية التي تنتصر لتاريخ الشّعوب المغيّبة في التّاريخ الرّسميّ، (كم هو جميل ان تتقابل الأوراح عندما تتيه العقول وتتكسر القلوب، جلست مع شمس التي لم تعد تلك الفتاة نضرة الوجه اللعوب المندفعة، لقد كبرت عشر سنين، لكنها مازالت قادرة على مداوة قلوب العاشقين التي اتعبها العشق ص٩١.(
والرّواية فوق كلّ ذلك، كلامٌ ، سرْد يتّشح بوشاح الحكاية الاجتماعية في مواضع تؤثر في النص كفعل بصري، جدول صامت ينساب في الرّوح كأوّل شعاع الفجر. دفئا أو حَرًا، (الأجمل من فرحة الحرية قيود الحبيب القديمة، اقترب مني احمد مبتسما بعد أن ذوب قاعة المحكمة حبا وحنانا، واسقط أهل ريم حقهم في الدعوة خرجنا من المحكمة الموقف الأكبر من الكلام، ص١٤٢.(
ومن خلال الأشكال التعبيرية التي وظفها الكاتب الزبون، المختلفة والممتدة بين مراحل تاريخ الحياة الأجتماعية للقرية التي كانت فضاء رواية "عطور يتيمة"؛ سعى الزبون إلى إبداع عوالم طافية تلوح من صنيعه لتتراءى بين ثنايا الحكاية النصية، (خرجت من بيتهم وقلبي يتقطع وعيني تفيض من الدمع لماذا اكون دائما جزءا من قصص هذه القصص القرية المرة ص١٥٦.( كما اخذت الرواية اسلوبا سرديا طقسيا، وهذا الشكل الطقسي هو اسلوب من أساليب الفن التشكيلي من خلال فن القرن العشرين في إيجاد ما نسيمه اليوم بالتنصيبة، وهي تقدم نفسها كغرفة حسبة وكفضاء، من خلالها يدخل المشاهد ليقوم بتجربة جمالية، هذا على صعيد الفن التشكيلي، أما على صعيد الفن الروائي يلعب التخيل في بناء التجربة، فالتخيل هنا مدخل لفضاء السرد؛ (إنها كاذبة وإنها مدسوسة، لكن أهل القرية لم يأخذوا بكلامه، وبدأوا بالحفر أما العرافة فقد استأذنت لقضاء حاجة ثم اختفت، وما هي إلا ساعات حتى كانت ساحة الطاحونة مقبرة مفتوحة، حتى علم الجميع أنهم وقعوا في فخ تلك العرافة ص١١٤.( تبدو التنصيبة بهذا المعنى في رواية "عطور يتيمة"، باعتبار شكلها ومن خلال تحرره وفيضه في المكان اقرب الى توصيف القرية، واكثر إمكانا ومدى، يضمن انخراط المرجع البصري من مكونات حسية وجمالية وموروثات ثفافية في الممارسة التعبيرية الراهنة، (وما أجمل ان تقترن اللغة المكتوبة مع الصورة ولا اجد مثل ذلك إلى في الصلاة الله عز وجل فهي اللغة التي تفهمها كل المخلوقات ص١٩٥.( كما تظهر التنصيبة في الرواية كمسرح مفتوح على استفهامات الكاتب في تحقيق مناخات بصرية ليجعل العالم على شساعته بما يحمل من أفكار وأماكن طيعة لسرد الكاتب، (نبقى طوال العمر نبحث عن أمل في ان نجد السعادة حتى عندما نبكي بسعادة، لأن بكاؤنا هو اللحظات الوحيدة التي نحس الناس قريبة منا بصدق، ص٢٠٦.( وتطرقت رواية "عطور يتيمة"، إلى للفعل القيمي في السياق الاجتماعي الأردني الراهن بالنظر إلى ما يشهده المجتمع القروي من تحولات متسارعة، طرأ ولايزال على المنظومة القيمية من تبدلات أربكت الهوية المحلية، وبما أن الفعل القيمي عامة يشغل حيّزا مهمّا في الممارسة الاجتماعية والثقافية في القرية، (صمت الجميع وسكت السامر، والكل ينظر إلى ماذا أقول أنهم يعرفون قصة حبنا منذ الصغر، الكل ينتظر أشياء مختلفة لكني فاجأت الجميع حتى أحمد فقد أخذت أزغرد مثل زغرودة أمي الذي تعلق بقلبي وبأطراف لساني زغرودة انتهت بحشرجة في صدري فهمها الجميع حتى النبع الذي كان يسهر معنا، ص٢١٢.(
وللحكاية في المجتمع القروي بُعد اجتماعي لأنه فضاء عمومي تلتقي فيه كل الفئات الاجتماعية في القرية من موظفين ومزارعين وباعة متجولة وأصحاب دكاكين، فالقرية لا تقر بمفهوم تنوع الفئات الاجتماعية، ولا تفرق بينهم، او الوظيفة هي المعيار لتقيم الإنسان، بل هناك معايير مختلفة عن المدبنة على الرغم من غزو مسائل كثيرة من المدينة الى القرية لكن بقيت محصورة في المسائل الإستهلاكية وهذا ما سعى له الكاتب عطاالزبون في روايته "عطور يتيمة"، التأكيد على ان القرية مازالت تحتفظ بطقوسها مهما حاولت المدينة غزوها، والمشهد التصويري الذي صوّره الكاتب الزبون دال على ما ذهبت له، (قام إلي وخلع عباءته رغم دف الجو وألبسني إياها كان معنى كبير بين أهل القرية رغم علمي أن ذلك سيثير عاصفة جدل بين الناس، ص٢١٠.( إن الكتابة الروائية ليست بفخامة الكلمات أو أوزانها كما يتصور بعض الروائيين الذين يتنافسون في اكتساب الشحوم ويربون الكروش السردية دون أدنى قيمة فنية، وهذا ما سعى له الكاتب عطااالله الزبون تحاشى ذلك، وقدم نص روائي يعرفنا على القرية الأردنية دون حشو أو فذلكة.
(كاتب وناشر أردني)