عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-May-2025

لماذا ألقى حزب العمال الكردستاني سلاحه بعد عقود من الكفاح؟

  الغد

عواصم - في خطوة تاريخية، أعلن حزب العمال الكردستاني "بي كيه كيه" (PKK) رسميا أمس حلّ نفسه وإنهاء الصراع المسلح مع الدولة التركية. 
يأتي هذا الإعلان ليضع نهاية لصراع مرير دام أكثر من 4 عقود، خلف وراءه مأساة إنسانية قُدّر عدد ضحاياها بأكثر من 40 ألف شخص، بالإضافة إلى دمار واسع وتكلفة باهظة على كافة الأصعدة.
 
 
لكن، ما الذي يدفع حركة مسلحة ضاربة الجذور، ومتمرسة في حرب العصابات لعقود طويلة، إلى اتخاذ قرار جذري كهذا بحل نفسها وإلقاء السلاح؟ وماذا كان دور زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان في ذلك؟ وهل يستطيع رجل سجين فعلا أن يصنع التاريخ؟
إن قرار حزب مسلح حل نفسه، خاصة بعد عقود من القتال الشرس، ليس حدثا عاديا، بل يعكس بالضرورة تحولات عميقة وجذرية في البيئة السياسية والعسكرية والفكرية التي يعمل ضمنها. ويمكن فهم الدوافع المحتملة وراء هذا القرار المفصلي من خلال تحليل عدة عوامل متداخلة:
1. العزلة الجيوسياسية وفقدان الحلفاء: لقد شهد حزب العمال الكردستاني تراجعا ملحوظا في الدعم الإقليمي والدولي خلال السنوات الأخيرة. ونجحت الدبلوماسية التركية في بناء تحالفات وعقد تفاهمات مع قوى دولية مؤثرة (مثل روسيا والولايات المتحدة) ودول الجوار، مما أدى إلى تضييق الخناق على الحزب وخلق بيئة معادية لتحركاته. بالتوازي، أصبح المناخ الدولي، خصوصا في حقبة ما بعد "الحرب على الإرهاب"، أقل تسامحا بشكل عام مع الحركات المسلحة غير الحكومية، مما زاد من عزلة الحزب.
2. تلاشي حلم الدولة أو الحكم الذاتي عبر البندقية: على الرغم من عقود طويلة من الكفاح المسلح والتضحيات الجسيمة، لم يتمكن الحزب من تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في إقامة دولة كردية مستقلة أو حتى فرض شكل من أشكال الحكم الذاتي المعترف به والمستدام داخل تركيا. ومع مرور الوقت، بدأت القناعة بجدوى الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لتحقيق الطموحات الكردية تتآكل، سواء داخل قيادة الحزب أو بين قواعده.
3. تطور الفكر القيادي.. نحو "الكونفدرالية الديمقراطية" فقد شهدت الأفكار السياسية لزعيم الحزب التاريخي، عبد الله أوجلان، تطورا ملحوظا على مر السنين، حيث انتقل هذا الزعيم من الطرح الانفصالي الصريح إلى تبني مفهوم "الكونفدرالية الديمقراطية"، وهو نموذج يركز على تحقيق حكم ذاتي ديمقراطي ضمن حدود الدول القائمة، بدلا من السعي للانفصال. ولا شك أن هذا التحول الأيديولوجي العميق قد تغلغل بصفوف قيادة الحزب وأثر على توجهاتها الإستراتيجية، وساهم في تراجع منطق الحرب والقتال لصالح رؤى سياسية بديلة.
4. كلفة الصراع الباهظة والإرهاق المجتمعي: إن 4 عقود من الصراع المستمر قد خلفت نزيفا بشريا ومعنويا هائلا لا يمكن تجاهله. فآلاف المقاتلين فقدوا حياتهم، وعانت المجتمعات الكردية في مناطق الصراع من ويلات القمع والتهميش والنزوح والدمار. فهذا الإرهاق المتراكم، والخسائر التي لا تعوض، ولّدت رغبة متزايدة لدى شرائح واسعة من المجتمع الكردي، وخصوصا الأجيال الجديدة، في البحث عن السلام وإنهاء دوامة العنف.
5. إستراتيجية الانتقال إلى المسار السياسي: قد يمثل قرار حل الجناح العسكري خطوة إستراتيجية تهدف إلى الانتقال الكامل نحو العمل السياسي السلمي، حيث تسعى بعض الحركات المسلحة في مراحل معينة إلى اكتساب الشرعية السياسية والاندماج بالعملية الديمقراطية كحزب سياسي معترف به. ويمتلك حزب العمال بالفعل حليفا سياسيا بارزا في الساحة التركية، ممثلا في حزب الشعوب الديمقراطي "إتش دي بي" (HDP) أو خلفائه، وقد تكون هذه الخطوة مقدمة لتركيز كل الجهود والطاقات على تعزيز هذا المسار السياسي بدلا من العمل العسكري.
6. ضغوط القاعدة الشعبية وتغير الأولويات: لم تعد البيئة الكردية الداخلية كما كانت قبل عقود، فقد شهدت المجتمعات الكردية في تركيا، وحتى في سورية والعراق، تحولات اجتماعية وفكرية، وارتفعت أصوات مؤثرة من داخلها تطالب بضرورة وقف النزاع المسلح والبحث عن آليات سلمية وديمقراطية لتحصيل الحقوق الثقافية والسياسية.
إن قرار حزب العمال الكردستاني بحل نفسه وإلقاء السلاح لا يتوقف عند حدود العلاقة مع الدولة التركية، بل يحمل تداعيات عميقة على خريطة الكيانات الكردية الأخرى، خاصة في سورية والعراق. فالحزب، رغم كل ما مرّ به، ظل يمثل العمود الفقري لفكرة "كردستان الواحدة" العابرة للحدود، وكان مصدر إلهام تنظيمي وعقائدي، وحتى حاميا عسكريا لبعض الكيانات الموازية.
قرار حزب العمال بإلقاء السلاح يحمل تداعيات عميقة على خريطة الكيانات الكردية الأخرى، خاصة في سورية والعراق بحسب مواقع التواصل الاجتماعي.
في سورية، قد تجد "الإدارة الذاتية" الكردية في شمال شرق البلاد نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى. فوحدات حماية الشعب الكردية "واي بي جي" (YPG)، والتي تعتبر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستان، تستمد كثيرا من مشروعيتها الرمزية والعسكرية من العلاقة الفكرية والتنظيمية معه، ومع غياب الحزب الأم، قد تضطر تلك الوحدات إلى إعادة تعريف نفسها سياسيا، إما بالتقرب من النظام السوري، أو بمحاولة تقديم نفسها كشريك محلي في معركة بناء الدولة والاستقرار وليس كحركة انفصالية. وفي كلتا الحالتين، ستزداد الضغوط التركية والأميركية عليها لتغيير خطابها وتركيبتها.
أما في العراق، وتحديدا في إقليم كردستان، فإن انسحاب حزب العمال من المعادلة سيفضي إلى إعادة رسم التوازنات داخل البيت الكردي. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، الذي لطالما كان على خصومة مع "بي كيه كيه"، سيجد فرصة لتعزيز هيمنته السياسية والأمنية، خاصة في المناطق الحدودية. لكن هذه الهيمنة قد لا تمر دون مقاومة داخلية، في ظل وجود قوى مدنية وقبلية تخشى ترك مصير القضية الكردية بيد جهة واحدة مرتبطة بعلاقات وثيقة مع أنقرة.
هكذا، لا يُعد حلّ حزب العمال الكردستاني مجرد نهاية لمرحلة الكفاح المسلح، بل هو شرخ في فكرة كردستان السياسية نفسها. فالمركز الرمزي سيتلاشى، وتبقى الفروع تبحث عن معنى جديد لوجودها، في عالم تتغير فيه التحالفات السياسية وأحلام البشر.
ورغم الغلاف العاطفي المحيط بنداء أوجلان، فإن قرار الحزب بحل نفسه جاء من منطلق إستراتيجي. فالحزب يواجه ضغطا عسكريا غير مسبوق من تركيا، وتراجعا في الدعم الإقليمي والدولي، وتغيرات في المزاج الكردي الشعبي، فضلا عن تشابك مصالح القوى الكبرى (واشنطن، أنقرة، موسكو) في خريطة جديدة لا تتسع لحركات مسلحة خارج السيطرة. ومن هنا، لا يُستبعد أن تكون هناك تفاهمات غير معلنة، وربما حتى "صفقة سرية" تتعلق بمصير أوجلان نفسه.-(وكالات)