“القدس والقصيدة العمودية القديمة”.. تاريخ وجمال الاسم والدلالة
الغد-عزيزة علي
يقول أستاذ الأدب العربي والنقد بجامعة اليرموك، وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية والتربوية بجامعة العلوم الإسلامية سابقا، د. عبدالحميد المعيني. إن القصيدة العمودية القديمة كتبت اسم القدس، وسائر تسمياتها المتواشجة معه، والمرتبطة به، وطرزت جمالياته ودلالاته، وإذاعته وأكدت عليه في القرن الأول الهجري وما قبله وما بعده بقليل، وكانت القصيدة هي الوثيقة الأدبية التي أكدت حضور القدس الجميلة الجليلة في بدايات الحضارة العربية الإسلامية.
ويضيف المعيني في مقدمة كتابه “القدس والقصيدة العمودية القديمة جدل الاسم وجمال الدلالة”، الصادر عن دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، رام الله، ان القدس أبدعت بشخصيتها وعبقريتها، واحتفلت بخلافتها الراشدة والرشيدة، ورسمت مشهدية أهلها، ومجالس علمها وثقافتها، وأسرار فرحها واحتفالاتها، ومعاني أسلوب حياتها التي استقامت على عمود الدين القويم.
الكتاب جاء في أربعة أقسام يتناول الأول اسم القدس قبل القرن الأول الهجري “العصر الجاهلي”، والثاني يتحدث عن اسم القدس في القرن الهجري “عصر صدر الإسلام”، والثالث يشير إلى اسم القدس بعد القرن الأول الهجري “القرن الثاني الهجري”، وأيضا من العصر العباسي، واسم القدس وتسمياتها، فيما يتحدث القسم الرابع عن اسم القدس أبعاد الدلالات وجمالياتها، واسم القدس: الجماليات، النتائج التي توصل اليها البحث مع تثبيت أسماء أشهر الشعراء الذين ذكروا اسم القدس وتسمياتها مرتبة ترتيبا هجائيا.
ويشير المؤلف إلى القصيدة العمودية التي حملت اسم القدس وتميزت بكثافة لوحاتها الإبداعية، وجماليات مشاهدها الشعرية، وروائع صورها الفنية التي تتمثل في غزارة الأصباغ البلاغية من التشبيهات والاستعارات والكنايات والمجازات، ومثلت هذه الصور الواقع والبيئة والطبيعة والحياة، وجاء فيها صور المكان التاريخ والجغرافيا والجبال، وصور الإنسان والنفس والخوف والوجه واليد والخرطوم ومفاتن، الحسن والزينة واللباس والجمال، وصور الحيوان والإبل والطير والحمام، وصور النبات والشجر والمياه، وصور الحكام والخلفاء والقادة والجيوش ورجالات الدولة.
ويرى المعيني أن قيمة القصيدة العمودية في قيمتها، فهي أيقونة ديوان الشعر العربي، وجوهرته الفنية، وإبداعات العرب وامتيازاتهم الحضارية، كانت وما زالت فن الحياة القولي المدهش، بتصميمها الجمالي، وقدرتها على الحمولة الفكرية والوجدانية والإنسانية، فهي إبداع وفن وعلم وفكر وظل لها منذ ألفي عام الجدارة والصدارة والفخامة والسيادة والطول والجمال والتأصيل والتاريخ، وغير ذلك وأكثر.
ويبين المؤلف أن القصيدة العمودية هي مسؤولية وخصوصية، فهي تقدم رأيها، وتبوح بأسرارها، وتكشف عن التفاصيل والجزئيات والمخزون الثقافي لديها، وترسم الجمال في مشاهد صورها ولغتها وايقاعها، وتستحق أن تكتب، وتقرأ في الساحات والقاعات والاحتفالات والمهرجانات، ولقد أصبحت في المكان والزمان مدنا وبلادا وأوطانا، وفي العمودية كلام كثير بهي وندي ومثير له أماكنه الأخرى.
يقول المعيني إنه ركز في بحثه على القصيدة العمودية الطويلة، بالإضافة إلى القصيدة العمودية المقطوعة التي تقل عن سبعة أبيات، والتي فقدت بعض أبياتها وتخلت عنها لأسباب ومواقف، منها الروايات والاختيارات والتوثيق وغيرها، ونلحق بهما قصيدة الرجز التي لها خصوصيتها وعوامل بنائها وتشكيلها، لكنها تبقى ملتزمة ببحرها الشعري الملهم، بحر الرجز العمودي، وتظل قصيدة عمودية، وتصل بعض قصائد هذا الرجز التي تم اختيار أبيات منها إلى أكثر من “200”، بيت من الشعر عند بعض الشعراء، وهو أمر له أهميته في دلالة العدد، وفائض القدرة الشعرية، والمقدرة الإبداعية.
ويرى أن القصيدة العمودية هي أم القصائد والبدايات، وتراث الماضي، ومنارة المستقبل، تكتب وتسرد وتقول وتطرح فكرها وموضوعها وتقدم رأيها، وهي بوح عالي النبرة في ذكر التفاصيل والجزئيات والمخزون الثقافي، والوثيقة التاريخية، وهي قصيدة المشهد الحضاري لمدينة القدس، وصورة الاحتفال والمهرجان التي توزع الشذى، وتنشر الطيوب في الأرجاء، وكانت الأمم قديما تفاخر بعمارتها وعمرانها، وانهارت الأبنية وسقوفها، أما العرب فقد فاخروا بالكلمة من خلال ديوان الشعر.
وينوه إلى أن القصيدة التي أوردها في الكتاب ليست إحصاء نهائيا، وإنما هي محاولات ومتابعات عبر الزمن في التلقي والقراءة والحصول على المعلومة والمعرفة، والوصول بكل ذلك إلى التعامل مع هذه القصيدة التي جاءت متفرقة في المصادر والمراجع العربية والتاريخية والجغرافية والأدبية، وفي الدواوين والمجاميع والمختارات الشعرية، وفي غيرها من الكتب والموسوعات والمعاجم، وقد ورد في هذه المصادر والمراجع أسماء القدس كثيرة دونما تدقيق وتحقيق في صحتها، وفي أثرها وتأثيرها، الأمر الذي يوجب مراجعة كل ذلك، وإعادة نسقه وتنسيقه من جديد.
ويقول المعيني إنه قام بجمع ما استطاع جمعه من قصائد وجدت اسم القدس ومشتقات اسمها وتسمياتها في أكثر من “60”، قصيدة، ولما يقرب من “40”، شاعرا، وعدد أبيات هذه القصائد في ملفات مضامينها وموضوعاتها، وانشغالاتها واشتعالاتها، ما يصل إلى أكثر من “2000”، بيت من الشعر، الأمر الذي يشكل مادة واسعة صالحة للدرس والبحث، “واللافت فيما قمت بجمعه انني لم أجد قصيدة كاملة موضوعا وفنا في القدس، لكن اسم القدس مكانا ومكانة ومعنى وفكرا وروحا وغير ذلك، تابع أثره وتأثيره في المضامين والموضوعات، وواصل القه وتألقه في فنيات القصيدة العمودية القديمة”، مبينا انه وضع ما وجده من القصائد، وما أطلع عليه من شؤونها وسردياتها، في كيان معرفي، وسبيل منهجي، وتدخل ما توصلت إليه القصيدة العمودية من أسماء وتسميات للقدس في ديباجة تسهل على المتابعين القراءة بيسر وسلاسة.
يواصل المؤلف حديثه على عملة البحث التي قام بها قائلا، “المهمة الأساس كانت جمع وتحقيق واتباع خطوات متلاحقات أولا: اسم القدس، ليكون اسمها عنوان البدايات والاهتمامات للتسميات، في صفحات هذا البحث، ولأن الاسم بما له من دلالات هو الموضوع الأساس والفكر الأصل لهذه المتابعة. اسم الشاعر وشهرته الذي ذكر القدس، وكتب عنوان اسمها، ليكون لها مكانها ومكانتها، ويظل له كذلك مكانه ومكانته في الأبعاد الموضوعية والدلالية والجمالية”.
ثم قصيدة الشاعر العمودية التي انشدها لها، وجاء اسمها في أبيات قمنا باختيارها منها، وعلقتها الأيام والأعوام قلائد غار وفخار وجمال على جيد القدس السيدة الحسناء المتأبية، ورفعتها راية عز ومجد على أسوارها وعمرانها وحضارتها، وأناشيد فخر ترددها الألسنة موسيقا جميلة لها، ولما كانت القصائد قديما في دواوين الشعراء لا اسم لها، وتم ذكر القصيدة وقافيتها عند اختيارها من هذه الدواوين ومن غيرها مع العلم بأن بعض مفردات القصائد وابياتها لها رواياتها ورواتها في المراجع والكتب الأخرى. ثم تم ترتيب هذه الخطوات زمنيا، ووضع رقم يتتابع قبل اسم القدس، وفي صفحة مستقلة، وعند تكرار الاسم أكثر من مرة لا نستخدم الترقيم، وهذه إشارة دالة على ان عدد الأرقام هو ذاته عدد أسماء القدس المدينة في صفحات البحث، وذكر مصادر القصائد المجموعة ومراجعها مباشرة مع متونها.
ويشير الى أن تتبع هذه الخطوات يفيد الدراسات الأدبية، والنقدية، ويقدم التنويرات والإضاءات على جدلية الاسم وجمالية دلالته، ويعني في ايراد الظواهر اللغوية والتصويرية والايقاعية بالتفسير الأول، والقراءة الأولى دلاليا وجماليا، في شأن هذه القصيدة وما تحمله من أسرار، وما يسكنها من مطالب وما فيها من علاقات وعلامات وأطياف، لافتا إلى أن هذا المنهج يمنح من التقنيات المعرفية والمعلوماتية الأقرب إلى الموضوعية التاريخية، لأن الهدف من هذا البحث هو تقديم النص وتوفيره، والعمل على حضوره بعد هذا الغياب الطويل، واحسب أن اسم القدس قد سكن وتوطن في قصائد كثيرة أهمها المدح والغزل والرحلة والسفر، ووثقنا ما قلنا في اماكنه من متون البحث؟.
ويقول المعيني في القدس أهم المعالم الدينية والأماكن المقدسة ودور العبادة عند المسلمين والمسيحيين، ففيها المسجدة الأقصى الذي بارك الله حوله، وفيها كنيسة القيامة أكبر دور العبادة عند المسيحيين، والمسجد الأقصى هو القدس وبيتها المقدس، والقدس هي فلسطين، وهي عاصمتها الأبدية ومدينتها القدسية المقدسية، وإنسانها المؤمن الطاهر المرابط فيها، وماؤها الطهور، وزيتونها غذاء فقرائها وطعام أهلها، وهي الهوية والسيادة والعزة والمجد والفخر، والقدس كانت وما برحت بيتا للعبادة، ودارا للخلافة، ومقرا للخلفاء والولاة، ومركزا للحضارة العربية الإسلامية، ورعت كل فضائلها ومزاياها التي خصها بها ربها، وحافظت على اسمها الذي اتفق وتوافق واشتق من الجذر الأساس لأسم خالقها المالك القدوس السلام.
وخلص المؤلف الى أن القدس أخذت اسمها وألقها وتألقها في الإيمان والهدى والكبرياء منذ أن بدأت حياتها ووجودها في غابر السنين وغائرها، وهي أقدم مدن الدنيا وبلدانها وبقاعها عبادة وحضارة وثقافة وعلما، وكانت القدس وما تزال وستظل المدينة المذهلة جمالا وعراقة وإيمانا ونورا، جليل مكانها، وعظم مكانتها، وقيم فضائلها، وشامخ عبقريتها وعباقرتها، وكتاب اسمها، وسر جمالها، وسحر جاذبيتها، وسجلت قسمات شخصيتها، وحافظت على نصوص قصيدتها وقصيدها ودافر شعرها وشعرائها.
ويذكر أن د. عبدالحميد محمود المعيني وهو أستاذ الأدب العربي والنقد بجامعة اليرموك، وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية والتربوية بجامعة العلوم الإسلامية سابقا، حصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد- جامعة القاهرة، في العام 1980، ودرجة الماجستير في الأدب والنقد جامعة القاهرة، في العام 1976، وليسانس في الآداب- اللغة العربية وآدابها – جامعة دمشق في العام 1966.
صدر له العديد من المؤلفات منها “شعر بني تميم في العصر الجاهلي”، “التميميون : أخبارهم وأشعارهم”، “الخليفة عمر بن عبد العزيز والشعر”، “شعراء عبد القيس في العصر الجاهلي”، “شعراء عبد القيس وشعرهم في العصرين الاسلامي والأموي”، “اللغة العربية بالاشتراك مع الأساتذة”، “اللغة العربية بالاشتراك مع آخرين”، وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.