عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Apr-2021

من وحي المئوية (8) من المعارضة إلى الموالاة*د. جواد العناني

 الراي

كان من عادة أبي رحمه الله أن يُجْلسنا نحن أبناءه الخمسة الكبار كل ليلة الساعة الثامنة والنصف لنستمع إلى تلاوة من آي الذكر الحكيم بصوت أحد قراء مصر المعروفين في ذلك الوقت. وكان لكل واحد منا المقرىء المفضل سواء كان محمد رفعت، أو مصطفى إسماعيل، أو عبدالباسط عبدالصمد، أو محمد صديق المنشاوي، أو طه الفشني، أو محمود خليل الحصري، أو أبو العينين شعيشع. وحفظنا طرق تجويد القرآن. وبين كل آية وآية، عندما يلتقط الشيخ أنفاسه، يسألنا أبي سؤالاً في النحو والصرف، أو في المعنى، أو في استخدامات أحرف الجر، أو أحرف العطف. وطلب منا دائماً بدءاً من الصغير حتى الأكبر سناً- وهو أنا- أن نجيب على السؤال الذي طرحه علينا قبل أن يعود المقرئ ليكمل التلاوة أو الترتيل.
 
وعلمني أبي وأنا صغير العَروض، وبحور الشعر قبل أن أبدأ الصف الأول الابتدائي في مدرسة حلحول، وخلق لديَّ حساً بالشعر. وكم من مرة أحْرجتُ ضيفاً من ضيوفه إذا كسر بيتاً من الشعر. فبحر المتدارك كان يطن في أذني «تررم، تَرَرم... فاعلن فاعلن». وبحر البسيط على وزن أناشيد الصوفية، وبحر الرمل على أغاني الموشحات، وبحر الهزج على وزن «أنا المحبوبة السمرا وأجلي في الفناجين.. مفاعلين مفاعلين» وهلم جرا..
 
وقد حدثني والدي أن الأمير المؤسس عبدالله تمتع بحس عالٍ في اللغة العربية، وَمَلكةٍ عالية في الشعر والنثر. وذكر لي والدي أنه بعد إعلان الوحدة بين الضفتين عام 1950، عُين أبي مذيعاً ومحرراً لنشرة الأخبار في إذاعة القدس. وقال إن الراحل الملك المؤسس كان يأتي للصلاة في المسجد الأقصى كل يوم جمعة، ويغادر بعدها عائداً إلى عمان، ويستمع لنشرة أخبار الثانية. فإذا ألحن مذيع النشرة في كلمة، أمر الملك سائقه وحرسه بالعودة إلى رام الله ليوبخ ذلك المذيع ويرفض أن يسمح له بتقبيل يده دلالة على عدم رِضاه عنه.
 
وحين قرأت الأعمال الكاملة للراحل الملك عبدالله المؤسس الشاملة لمذكراته، والملحق بها كتابٌ عن أهم المعلومات في الدين الاسلامي ومبادئه ويروي أهم الحقائق عن سيرة الرسول عليه السلام ووالديه وأسرته وأقاربه من آل البيت. وبكتاب آخر عن مبادئ اللغة العربية ونحوها وصرفها. وازددت شغفاً بالرجل من هذه الزاوية، خاصة وأنه لم يغضب من والدي ولو مرة واحدة لأن والدي لم يلحن في قراءته لنشرة الأخبار.
 
ولما صرت في الثانوية العامة بالكلية العلمية الاسلامية، تجادلت أكثر من مَرَّةٍ مع أستاذي حينئذ المرحوم يوسف العظم، ولما رأيته في الكلية أول مرة، تذكرته وهو في شبابه حين أتى إلى حلحول وأخذ يخطب في ملعب المدرسة بالأساتذة وبالتلاميذ عن الدين، وفلسطين. ويحض الطلاب على الانخراط في حركة الأخوان المسلمين.
 
ودرسني في نفس الوقت المرحوم الشيخ عبدالعزيز الخياط قبل أن يحصل على شهادة العالمية من الأزهر. وقد التحق الشيخ الخياط في أوائل شبابه بحزب التحرير. وقد سعى كل منهما إلى إقناعي بأفكاره. ولكن أبي طلب مني أن استمع إليهما دون أن انحاز لهذا أو لذاك، وأن أُعْمِل الفكر بحثاً عّن الحقيقة بدون تعصب أو تحيز.
 
وقادني هذا البحث إلى مزيد من القراءة حتى تعرفت على فكر المعتزلة والمرجئة. وأدركت أن الإخوان المسلمين في الأردن كانوا من المرجئة الذين يحتجون على الحاكم إن رأوْا أنه لم يطبق شرع الله. ولكنهم لا يدعون للثورة عليه. أما أعضاء حزب التحرير، فكانوا يعملون ضد الحاكم إن خالف الشريعة، وأحلوا الخروج عليه.
 
ولَم يكن الأمر يقف عند ذلك، بل كنّا نسمع في المدرسة من أقطاب حزب البعث. وكانت تجربتي النضالية الأولى عام 1955، حين كنت في الصف السادس الابتدائي، عندما دخل طلاب من مدرَسَتيْ الحسين ورغدان، وانتزعونا من مقاعدنا كي نشارك في المظاهرات ضد حلف بغداد الذي ضم تركيا والعراق والأردن وإيران. وقد أُلقيت علينا القنابل المسيلة للدموع، وبكيت يومها حتى أدركت أن النضال أمر مضنٍ جداً.
 
ومن أطرف ما شاهدته أن مرت سيارة فارهة جلس في الكرسي الخلفي فيها شخص بدا عليه الثراء. وهاجمه المتظاهرون «اطلع يا جاسوس»، لأكتشف أن هذا الشخص هو المرحوم هاشم السّبع الذي عمل مذيعاً مع النازيين في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، وكان يشتم الأردن بينما كان هو – كما قبل لي - جاسوساً للأنجليز على الألمان.
 
وصرت أشارك مع القوميين والشيوعيين في النقاشات حول موضوعات ديالكتيكية مثل هل يأتي التحرير قبل الاستقلال، أَمْ الاستقلال قبل التحرير؟ (والتحرير يعني تحرير فلسطين). وسؤال آخر حول «هل الكون صدفة أم خلقٌ؟» كما يحلو للشيوعيين أن يسعوا لإقناعك. وقد عمقت هذه الأفكار عندي روح التفكير.
 
ودارت الأيام، فإذا كل الذين سعوا لإقناعنا بالدخول في الأحزاب، صاروا جزءاً من النظام الذي انتقدوه وهاجموه أحياناً. وذكرني بمقولة » وينستون تشرشل الشهيرة، والتي رد بها رئيس وزراء حزب العمال ماكماهون على سؤال وجه إليه في مقابلة تلفزيونية «إذا كنت شاباً في العشرين ولَم تكن اشتراكياً، فأنت بلا قلب، وإذا بلغت الثلاثين وبقيت اشتراكياً ثورياً فأنت بلا عقل».
 
ولما دَخَلتُ حكومة الراحل الشريف عبدالحميد شرف العام 1979 فوجئت بعدد البعثيين والقوميين من الوزراء الذين شاركوا في الحكومة. وزاد عجبي أكثر عندما صرت وزيراً للعمل في حكومة السيد مضر بدران وجدت أن عدداً كبيراً من وزرائه كانوا من حزب البعث العربي علماً أنه عمل مديراً للمخابرات قبل ذلك.
 
وبعد أحداث 1989، أمر الملك الحسين بتشكيل لجنة برئاسة الأستاذ أحمد عبيدات لإصدار الميثاق الوطني. وقد تشكلت هذه اللجنة من حزبيين سابقين عارضوا النظام وأُلغيت تراخيص أحزابهم منذ عام 1957. وفي رأيي أن أهم بند في الميثاق هو اعتراف الأحزاب، خاصةً اليسارية والاشتراكية، بالدستور الأردني الذي ينص على أن المملكة الأردنية الهاشمية بلد ملكي وراثي دستوري. وبالمقابل اعترف الحُكْم بالأحزاب وسُمِحَ لها بممارسة نشاطها. وكان هذا التبادل في الميثاق الوطني هو الذي هيأ لاعتماد قانون للانتخاب يجيز للأحزاب المشاركة ترشيحاً واقتراعاً، وسُمح بنظام التصويت المتعدد لكل ناخب مقترع. وأدى هذا الأمر إلى رفع حصة الأحزاب اليسارية والدينية في مجلس النواب الحادي عشر إلى حوالي (35) نائباً من أصل ثمانين.
 
وشكل السيد مضر بدران الحكومة بعد الانتخابات، وتحمل من النواب ما لم تتحمله الجبال وهم ينهالون عليه نقداً وتذكيراً وتقريعاً، علماً أن حكومته اشتملت لأول مره على عدد من أعضاء الاخوان المسلمين مثل المرحوم يوسف العظم والدكتور أحمد العكايلة وغيرهم. أما الشيخ الدكتور عبدالعزيز الخياط فقد شغل منصب وزير الأوقاف في حكومَتَيْ السيد زيد الرفاعي الأعوام 1973-1976، 1985-1989.
 
بالنسبة إلي، لقد كان هذا التحول من المعارضة إلى الموالاة والانتقال من خانة الناقدين إلى خانة الممارسين مثيراً لفكري. وقد تساءلت عبر حياتي عن أشياء أخرى، فالذين شاركوا في محاولات الانقلاب على الراحل الملك الحسين، عادوا ليخدموا حكوماته التي يُطلب من وزرائها قبل ممارسة أعمالهم الوزارية أن يقسموا اليمين التالي بموجب النص الدستوري «أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك، وأن أحافظ على الدستور، وأن أخدم الأمة، وأقوم بالواجبات الموكولة إليّ بأمانة». والقسم ينص على خدمة الملك. ولكن دهاء الملك الراحل الحسين بن طلال جعل من المرحومين صادق الشرع وزيراً للتموين علماً أنه حُكم عليه بالإعدام، وكاد يُعدم. وكل من المرحوم علي أبو نوار وعلي الحياري سفيرين، ونذير رشيد مديراً للمخابرات العامة، ووزيراً للداخلية. والمرحوم الدكتور معن أبو نوار مديراً للأمن العام، ووزيراً لعدد من المرات، وأميناً لعمان، وعضواً في مجلس الأعيان. وقس على ذلك.
 
ولو عدنا إلى كتاب الراحل الملك الحسين «Uneasy Lies the Head» لاكتشفنا مقدار ألمه وخيبته بمن ظنهم أصحابه وأصدقاءه، ليتفاجأ بأنهم كانوا يبيتون المكائد له. وقد خاب أمله - كما يقول الكتاب - في الذين خرّوا يطلبون العفو بمجرد مواجهته لهم علماً أنه جهز نفسه قبل لقائهم بالقيادة العامة لمعركة حامية.
 
وفِي كتاب «جاك أوكونيل» «مشورة الملك: مذكرات الحرب، والجاسوسية والدبلوماسية في الشرق الأوسط» «TheKing’s Counsel».
 
وقد كان الأميركي جاك أوكونيل يعمل في دائرة الاستخبارات الأميركية محققاً. وبحسب كتابه فقد ساهم مع المرحوم محمد رسول الكيلاني في التحقيق مع أعضاء التنظيم الذي سعى للانقلاب ضد الملك إبان حكومة المرحوم سُليمان النابلسي. ويشرح الكتاب بالتفصيل كيف تمكنوا من الحصول على اعتراف من المتهمين، وقد وعدهم جلالة الملك شخصياً أنهم إذا اعترفوا فسوف يعفو عنهم. وقد حصل. ولقد التقيت جميع هؤلاء الأشخاص وآخرين غيرهم مثل المرحوم شوكت السبول، وكانوا جميعاً أعضاء فاعلين في المجتمع، وقدموا إسهامات مهمة في الحفاظ على الأردن وأمنه بالرغم من أن بعضهم ما يزال موضوع نقاش وجدل حتى تاريخه. وفِي لقاءاتي معهم سألتهم جميعاً عن دورهم فرووا لي الحكايات والتجارب التي مروا بها. وقد كنت استمع إليها بشغف شديد. وكأنني أحضر فيلماً مأخوذاً عن قصص توم كلانسي «Tom Clancy»، أو «جون لو كاري» » John Le Care» صاحب قصص الجاسوسية والممارس لها.
 
هذه القصص علمتني أن الأردن لم يـُبْنَ بسهولة، ولَم تكن مسيرة البلد مزروعة بالورود، بل بالأشواك. وكما يقول الشاعر اللبناني سعيد عقل واصفاً الأردن «في حجم بعض الورد إلا أنه/ لك شوكة ردت إلى الشرق الصبا». ولكن هذه الوردة تعرضت لمن ظنوا أنها سهلة القطاف من الدول حولنا.
 
ولعل من أهم أسباب منعة الأردن، هو أن آل هاشم الذين قيَّضهم الله للأردن وشعبه الوفي الأمين، لم يكونوا غلاظاً قساة القلوب، بل كانوا متقيدين بالآية الكريمة في الإشارة إلى خلق الرسول في تعامله مع أهله وصحابته» فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّه لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» الآية (159) سورة آل عمران.
 
هكذا تمكن الملك عبدالله المؤسس من تأليف القلوب والمهج حوله، وهكذا عمل الملك الراحل طلال واضع الدستور، وهكذا بنى وأقام وصان الدولة الراحل الملك الحسين، وهكذا يفعل الملك المعزز عبدالله الثاني. الظروف تتغير، والأسلوب يتبدل، ولكن المرجعية في العلاقة بين الملك والشعب تبقى راسخة على نفس الأسس، وقائمة على التواد والتراحم والمفاتحة. ولن تجد من ملوك بني هاشم في الوطن العربي أكثر تحملاً للنقد، وأكثر تسامحاً فيه، لا ضعفاً ولا وَجَلاً، بل قادرون ومُقدَّون. الشعب الأردني عظيم وطيب ولابد أن يكون من يتولى أمرهم مثلهم وقدوة لهم.
 
الهاشميون هم أطول الحكام العرب أمداً في الحكم. ويعود تاريخ العائلة الهاشمية في الأردن إلى عام 1622 ميلادية، واستمر حتى الآن، مما يجعل عمر هذه الأسرة الحاكمة (399) عاماً، وسيبلغ عام 2022 أربعمئة عام من الحكم بهذا التراث الطويل، لا يمكن لمؤرخ ومتابع مثلي أن يفوته أن أخلاقهم ومعاملتهم لا يمكن أن تكون مثل معاملة حديثي الحكم. أو الانقلابيين، أو الذين يَرَوْن في القسوة بديلاً عن الحكمة واللين والسياسة. وهم ينطلقون في هذا من قاعدة تراثية تفخر باللغة والتراث والأدب وسَلْك سلوك ما وُصِف جدهم الأعظم به في القرآن «وإنك لعلى خلق عظيم». وأي توصية أحسن من تلك الصادرة عن الخالق الأعظم للرسول عليه السلام في سورة القلم (الآية 4).