"بهمش" للعيسة.. مشاهدات ووقائع على هامش الانتفاضة الفلسطينية
الغد-عزيزة علي
صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كتاب بعنوان "بهمِشّ: يوميات كاتب في انتفاضة مغدورة" للباحث والروائي الفلسطيني أسامة العيسة.
في كلمة على غلاف الكتاب، يقول الروائي الأردني ناصر الريماوي: "إن العيسة يوثق في هذه اليوميات مشاهدات ووقائع على هامش الانتفاضة الفلسطينية المباركة، أولا لأهميتها كرافد طبيعي للمواجهات، وعلى خلفية اجتماعية مهم لما قد نعتقد أنه ثانوي، من حيث الضآلة مقارنة بالوقائع اليومية الرئيسية. وثانيا لأنها تصاغ بأسلوب أدبي شيق، بحماسة المنتمي لذلك الحدث، بالروح قبل القلم، على هذه الأرض. فلا يوجد ما هو هامشي بلا قيمة في زمن المواجهات العادلة مع المحتل... هذا ما تقوله على الأقل يوميات/ ومشاهدات الروائي أسامة العيسة التوثيقية.
فيما يقول العيسة في "خطبة اليوميات"، وهي عبارة عن مقدمة للكتاب: "إنه في يوم ماطر (18 شباط 2024م)، حين كانت السماء تمطر بغزارة، ذهب إلى أزقة مخيم عايدة، الذي يقع بمحاذاة الجدار الضخم المحيط بـ"قبة راحيل"، وهو المقام الإسلامي- المسيحي الذي استولى عليه المحتلون وحولوه إلى جيب عسكري- استيطاني، وضموه مع أراضٍ أخرى إلى حدود بلدية القدس الاحتلالية".
ويضيف المؤلف أنه بجوار المقام الفلسطيني، الذي يحرسه جنود الاحتلال من أصحابه الفلسطينيين، كما قال: "أحد الجنود في منتصف تسعينيات القرن الماضي في تصريح إلى مجلة ألمانية، تقع المقبرة الإسلامية الرئيسية في مدينة بيت لحم، حيث دفن فيها شهداء من حرب فلسطين (1948م) من جنسيات عربية مختلفة. كما يدفن فيها اللاجئون في مخيم عايدة موتاهم، ومن بينهم الطفل عبد الرحمن شادي عبيد الله، الذي استشهد يوم 10/5/2015م".
ويشير العيسة إلى أن هذا المقام تحول إلى نقطة تماس جديدة بين فتية الحجارة وجنود الاحتلال بعد اتفاق أوسلو 1993م، وتهويد المقام. وعلى إسفلت شارع القدس -الخليل، سالت دماء الأطفال والشبان، وفي الانتفاضة الثانية (2000م)، تكثف الموت مع كثافة المواجهة عند المقام، الذي شكل لقرون واسطة العقد بين المدن المقدسة الثلاث: الخليل، بيت لحم والقدس.
ويبين العيسة أنه في فلسطين بين كل انتفاضة وانتفاضة، انتفاضة، وبعد خفوت الانتفاضة الثانية الكبرى، واتخاذ سلسلة من الإجراءات الإدارية للصراع والسيطرة عليه، وتصفية خلايا المقاومين بالقتل أو السجن، اندلعت على ما يبدو أنه انتفاضة ثالثة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2015م. حيث وقعت أحداث مختلفة في سنوات سابقة كانت تذكر تيمنا بأنها الانتفاضة الثالثة المنتظرة، لكن لا أحد يمكن أن يعرف متى تولد الانتفاضات في الأرض المقدسة في فلسطين.
ويرى المؤلف، أن الناس لم يتفقوا على أن ما يحدث هو انتفاضة، على الأقل مثل الانتفاضتين الكبيرتين أو غيرهما من الانتفاضات الصغيرة، مثل انتفاضة النفق (1996م)، واحتاروا في تسميتها بين هبة وانتفاضة. في هذه اليوميات، تظهر بالاسمين. وقد يكون النقاش حول أي من التسميتين أصح أكاديميا خارج نطاق هذه المقدمة، رغم أهميته.
وأوضح أنه كان ينزل إلى مواقع المواجهات ليفهم ما يدور في أذهان جيل جديد من الفتية الذين يشبون على رشق الحجارة، وكتبت يوميات تحت عنوان "أكتوبر الخامس عشر". ولكن يمكن تسمية تلك الانتفاضة التي غابت مثل غيرها من الهبات باسم "بهمش"، الكلمة التي اشتهرت بسبب تردادها من قبل الحاج "زياد أبو هليل"، الذي كان ينزل إلى نقطة المواجهات في مدينة الخليل، محاولا حماية الفتيان من رصاص الجنود، مخاطبا الجنود بلهجته المحلية وبأسلوبه الذي عرفه الناس من خلال الفضائيات: "بهمش". وأصبحت الكلمة شعارا لدرجة أنني رأيت فتيانا يرسمونها على رؤوسهم عند الحلاقين.
ويشير المؤلف إلى أنه في أحد الأيام، مر بالقرب من القبر المفتوح الذي كانت تجلس عنده أحيانًا الصديقة "أزهار أبو سرور"، منتظرة عودة جثمان ابنها عبد الحميد لتدفنه، وتطمئن عليه تحت الأرض وقريبا منها. تقدمت أكثر حتى وصلت إلى صرح يحمل صورة كبيرة للشهيد الطفل عبيد الله، مع كتابة باللغة الإنجليزية على لسانه تشرح للعالم ظروف إعدامه، برصاصة استقرت في قلبه من قناص على أحد أبراج السور المحيط بقبة راحيل، المطل على مخيم عايدة.
ويتابع العيسة، وفي اليوم التالي لاستشهاده، شيع عبيد الله إلى مثواه الأخير في مقبرة قبة راحيل، على بعد أمتار من موقع استشهاده. وقد كتب العيسة كما يقول، في يومياته بتاريخ 6/10/2015م: " إن الطفل الشهيد عبد الرحمن شادي عبيد الله. تمكن من إعادة الحشود الجماهيرية الكبيرة إلى شوارع بيت لحم، خلال تشييع جثمانه، بعد يوم من استشهاده، برصاصة قناص احتلالي، عندما كان يقف على مدخل مخيم عايدة شمال بيت لحم، مرتديا زيه المدرسي، وما تزال حقيبته المدرسية على ظهره".
في باحة مستشفى بيت جالا الحكومي، احتشد المواطنون منذ الصباح. وألقيت كلمات استنكرت جريمة الاحتلال، وطالب المحتشدون، في هتافاتهم بالانتقام لدماء الشهيد. وانطلق موكب التشييع من المستشفى بجنازة شعبية ورسمية، بمشاركة قوات الأمن الوطني بالزي الرسمي، ورفع المشاركون الأعلام الوطنية ورايات الفصائل، وصولا إلى مخيم عايدة. حيث وضع جثمان الشهيد، الذي لف بالعلم الفلسطيني وراية حركة فتح، في منزل عائلته لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.
وبعد الصلاة على الجثمان في مسجد مخيم عايدة، انطلق المشيعون إلى المقبرة الإسلامية، حيث وري الثرى. وبعد انتهاء التشييع، اندلعت مواجهات قرب الجيب العسكري في قبة راحيل، استنكارا لجريمة قتل عبيد الله بدم بارد. واعتبر استشهاد عبيد الله إرهاصا لانتفاضة "بهمش".
وخلص العيسة إلى أن هذا الاعتداء الوحشي على الفتى، الذي اعتقلته قوات الاحتلال في مناسبة أخرى، وشارك والده ووالدته في الاعتصام التضامني مع الأسرى في ساحة المهد بمدينة بيت لحم، واستشهاد عبيد الله، وهو جزء من مشهد يمكن أن يقدم فهما لإرهاصات انتفاضة "بهمش"، التي لا تفصل عن عمليات فردية عديدة لم تتوقف. فوجود الاحتلال ينتج مقاومة. وتعتبر الجهات الإسرائيلية أن شهر أيلول (سبتمبر) 2015م، هو بداية الهبة التي سمتها في مراحل لاحقة بـ"انتفاضة السكاكين" والموجة العنيفة التي لم يهتم أحد بتفسيرها.
ومن أحد اليوميات تحت عنوان "تصفية حساب"، يقول العيسة: إنه في السابع من أكتوبر 2024، في فجر الذكرى الأولى لطوفان الأقصى، ارتقى في مدينة دورا مسن فلسطيني، بعد اقتحام جنود الاحتلال منزله والاعتداء عليه بالضرب المبرح. هذا الخبر الذي بثته وسائل الإعلام، واتضح أن المسن ليس سوى "الحاج زياد أبو هليل"، صاحب "بهمش"، في انتفاضة أكتوبر قبل تسعة أعوام. الذي جعله فتية الانتفاضة رمزا لانتفاضة بلا قيادة أو برنامج. إنها زفرات غضب وألم وأمل! أغلق المحتلون الدائرة، وصفوا الحاج زياد! هل أقول "بهمش" يا حاج؟ إلى متى سنظل نقولها؟.