الدستور
اختزال «العنف» في الجامعات، فقط، وتحميلها مسؤوليته، ليس جزءا من «خطاب» مسطّح يحاول ان يغطي على «المشكلة» ويحشرها في زاوية معزولة، وانما –أيضاً - محاولة غير بريئة للهروب الى عناوين غير دقيقة، هدفها «تصغير» القضية، وعزلها عما يحدث في المجتمع، وتبرئة «المتورطين» في ايصالنا الى «الحافة» من مسؤولياتهم، وإيهام البعض بأن «أحوالنا» بخير، باستثناء ما يحدث في حرم الجامعات.. هذا الذي يبدو «صوتا» نشازاً يعكر مزاجنا العام.
الخطأ في التشخيص يقود بالنتيجة الى خطأ في المعالجات، وهذا ما حصل فعلا، فقط بدأنا منذ سنوات طويلة «ماراثون» الحملات –بأنواعها- ضد العنف في الجامعات، كتبنا وحاورنا والتأمت لجان متخصصة أصدرت بياناتها ومقترحاتها.. وهبّ الجميع لاستنكار ما يحدث والتوافق على انهائه على الفور.. لكن هذا المسلسل بحلقاته الطويلة والمملة لم ينته، بل على العكس تماما، تحوّل الى «فيلم» مرعب، اختلطت فيه الادوار والأدوات حتى سال «الدم» مع الأسف.
لم ننتبه، ربما، الى ان «الجامعات» تعكس صورة المجتمع، والى ان طلابها والعاملين فيها هم من «طينة» هذا المجتمع يتحدثون باسمه ويمارسون افعالهم بالنيابة عنه، ونحن –بالتالي- نرى «صورتنا» في مرآتهم، تعكس عافيتنا حين يكون لدينا عافية نتمتع بها، وتعكس «أزماتنا» واختناقاتنا وإحباطاتنا حين تضل اقدامنا طريق الصواب.. ونفقد «مناعتنا» ضد العلل والأمراض.
لم نسأل انفسنا، لماذا يشعر المواطن في بلادنا دائما بالتوتر والقلق، ويفكر احيانا بعقلية الانقضاض، ويرسل، ولا يستقبل، ويفضل الهجوم على من يخالفه، لماذا يستغل اول فرصة «للاختلاف» لكي يمارس العنف، حتى مع أقرب الناس إليه، لماذا يقتل الاب ابناءه وزوجته، والجارة جارتها، ولماذا تحول العنف الى «بلاء» عام، وانتقل من الافراد الى المؤسسات، ومن العوام الى النخب، هل المسؤول هو عدم تطبيق التشريعات الرادعة، غياب المشروع الوطني، تراجع الفعل السياسي، التحولات القيمية التي أصابت مجتمعنا، الفقر والبطالة وأحوال الناس الاقتصادية؟
ربما، لكن الاخطر من كل ذلك هو حملات التحريض والتعبئة التي نتعرض لها، في شوارعنا تعبئة عامة بدون أدوات تصريف، في اعمالنا الدرامية ثمة تحريض، في أغانينا الصباحية ثمة بذور شحن وعنف، وفي نقاشاتنا السياسية ثمة تحريض أشد «لا تسأل ضد من.. ولا من قبل من؟ » وفي مناهجنا التربوية ثمة تحريض أخطر «خذ مثلا من معدلات العنوسة والطلاق والخلع، وعقوق الابناء.. الخ»، وواقعنا كله مليء، للاسف، بثاني اكسيد «الشحن» السلبي، الى درجة تحول فيها احدنا الى «بالون» لا يعدم من ينفخ فيه.. ولا يحتاج لاكثر من «وخزة» دبوس حتى ينفجر.
حالة التعبئة هذه التي تفرضها علينا - أحياناً - ظروفنا والبيئة السياسية التي تحاصرنا، والاحداث التي نتعرض لها، ونبالغ فيها أحياناً اخرى، ربما لاننا استمرأنا وجودها، هي المسؤولية عن جانب كبير من «العنف» الاجتماعي الذي نعانيه، وشاهد على «الخيبات» التي نمرّ بها، ودليل على الفراغ الوجداني والثقافي واليباس الذي أصاب حياتنا، وحالة «التعبئة» هذه تحتاج دائما الى تفريغ، لانها طاقة مخزونة، تفيض عن قدرتنا - أحياناً - على التحمل، وكان يمكن ان تفرّغ في العمل والانتاج، لكن ذلك يتطلب وجود مناخات تصالحية، قيم مشتركة، إطارات مؤسسية، مرجعيات موثوق فيها، خطاب هادئ وموزون، برامج تخرج من أرضية الانسجام لا الصراع، احلاف «فضول» لا احلاف «طبول».
حين نتوجه الى «تطويق» العنف في الجامعات، دون ان نمرّ من «الحاضنات» التي أنتجته داخل المجتمع، ودون ان نعترف «بالمراكز» التي سوقته وروّجته، والأخرى التي أوصلتنا اليه، فكأننا، عندئذ، نمارس العملية بالمعكوس، نحاكم النتائج والافرازات ونهمل الأسباب والمقدمات، نتعامل مع الجامعات «كمحميات» وننسى ان وراء أسيجتها «وحوشا» يمكن ان تتسلل في أية لحظة.. فيقع المحظور.