استعيدوا أبناءكم من الشبكة العنكبوتية قبل أن تبتلعهم!*د. محمد العرب
الدستور
لم يعد الأمر مجرد لهو عابر أمام شاشة صغيرة، بل تحول إلى عملية اختطاف منظمة لطفولة أبنائنا، تُدار بصمت وبذكاء اصطناعي يعرف كيف يسرق اللحظات من أعمارهم، ويعيد تشكيل وعيهم بما يخدم شركات لا ترى في أطفالنا سوى أرقام متحركة على عدادات الأرباح ، لقد سُرقت الحكايات البريئة من دفاتر الصغار، وغُيّبت ضحكات الأزقة، واستُبدلت بمؤثرات بصرية سامة تجعل الطفل أسيراً في عالمٍ افتراضي لا يرحم.
حين كان الطفل سابقاً يتعلم من حضن أمه وحديقة بيته، صار اليوم يتعلم من (خوارزمية) لا قلب لها ، ألعاب مصممة لتجعلهم يدمنون، فيديوهات قصيرة تمسح ببراءتهم، وغرف دردشة يختبئ خلفها ذئاب بشرية بوجوه ملونة وفلاتر براقة. نحن نعيش زمناً يُسلب فيه الأبناء من بين أيدينا دون أن نشعر، فالخطف لم يعد بسلاسل حديدية، بل بخيوط أثيرية غير مرئية تمتد من شاشة الهاتف إلى روح الطفل مباشرة.
الخطر الأكبر أن الأهل أنفسهم صاروا شركاء في الجريمة من حيث لا يعلمون. كم من أب سلّم هاتفه لطفله ليتفرغ لحديثه الخاص؟ وكم من أم وجدت في الأجهزة الإلكترونية وسيلة صامتة لإسكات صراخ صغيرها؟ إننا نساهم يومياً في قتل الطفولة على مذبح الراحة المؤقتة، ثم نستغرب حين يكبر أبناؤنا بلا أحلام وبلا هوية. كيف نلوم المدارس على ضعف التعليم، ونحن من سلّم العقول الغضة لمحتوى عشوائي يمطرهم بالسطحية والابتذال ليل نهار؟
ضلنكن واضحين: لا يتعلق الأمر بالتقنية نفسها، بل بكيفية إدارتها. الشبكة العنكبوتية ليست لعبة بريئة، إنها شبكة حقيقية، خيوطها متشابكة بإحكام، ومصممة لاصطياد من يقترب. كل نقرة محسوبة، كل حركة مراقبة، كل ثانية محسوبة بدقة لكي يتحول الطفل إلى تابع مبرمج. خوارزميات المنصات تعرف ما يخيفه وما يضحكه، تعرف أي فيديو سيجعله يبقى دقيقة إضافية، وأي لعبة ستجعله يدفع أموالاً من بطاقة والده دون إدراك. هذه ليست مصادفة، بل صناعة متعمدة لإنتاج أجيال مشوشة الفكر، ضعيفة الإرادة، وقابلة للانقياد.
ولعل الأكثر إثارة للرعب أن الطفل لم يعد يعرف العالم خارج الشاشة. إذا طلبت منه أن يلعب في الخارج، يتذمر وكأنك تطلب منه عقوبة. إذا دعوتَه للحديث، أجابك بوجه غائب وعينين معلقتين على عالم افتراضي يبتلعه. هناك أطفال لم يعودوا يحفظون أسماء أصدقائهم في الحي، لكنهم يحفظون أسماء مئات المؤثرين وصنّاع المحتوى الذين يوجهونهم خفية. نحن نصنع بأيدينا جيلاً يقرأ العالم عبر نافذة مشوهة، جيل قد يفقد القدرة على الحلم البسيط، أو حتى القدرة على أن يعيش طفولة طبيعية.
دقوا ناقوس الخطر! لا تقولوا إن الوقت لم يحن بعد، فالخسارة تتضاعف كل يوم. الطفل الذي يخسر اليوم ساعة من اللعب الواقعي يخسر غداً القدرة على التواصل الاجتماعي. الطفل الذي يستهلك دماغه في مقاطع سطحية يخسر غداً ملكة التركيز والخيال. والطفل الذي يتربى على العالم الرقمي وحده سيجد نفسه عاجزاً عن مواجهة الحياة الحقيقية، لأنه اعتاد على (زر الإعجاب) كمعيار للنجاح، و (زر الحذف) كحل للهزيمة.
إنقاذ أبنائنا لا يبدأ بحملات وعظية فارغة، بل بقرارات شجاعة داخل كل بيت. اسحبوا الأجهزة من أيديهم قبل أن يتحولوا إلى رهائن. أعيدوا لهم الكتب، الحكايات، اللعب في الحديقة، الحوار على طاولة الطعام. أعيدوا لهم ضحكة الجماعة بدل عزلة الشاشة. نعم، سيكون الأمر صعباً، لكن ماذا يساوي صراخ ساعة أمام حياة كاملة محفوظة من التشويه؟ هل نملك الشجاعة لنقول ((لا)) لأولادنا حين يطلبون المزيد من الوقت على الإنترنت، أم أننا نستسلم خوفاً من دموعهم بينما هم يُسرقون من بين أيدينا؟
إنها حرب غير معلنة، حرب لا تُخاض بالبنادق بل بالشاشات، ولا تُعلن فيها النوايا، لكنها أشد فتكاً من أي معركة تقليدية. نحن أمام أجيال مخطوفة، وإذا لم نستعدهم الآن فسنستيقظ غداً على مجتمعات بلا خيال، بلا أحلام، وبلا قيم. الشبكة العنكبوتية ليست مجرد وسيلة تواصل، إنها وحش بألف ذراع، يمد يده في غرف نوم أطفالنا ويغرس مخالبه في عقولهم.
استعيدوا أبناءكم الآن، قبل أن يفوت الأوان.