عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Oct-2020

البحث العلمي… إشكالية ثقافية

 القدس العربي-رامي أبو شهاب

لا يمكن تجاهل أن ثمة فرقاً بين (المثقف/العالم) والأكاديمي، كما ثمة، أيضا فرق جوهري بين المعرفة المتأتية من البحث، الذي يستهدف مراكمة معرفة مفرغة من التأثير، أو بلا أي إضافات- سوى إنها كتابة على الكتابة- والمعرفة التي تتملكها رؤية البحث عن حلول حقيقية لمشكلة الإنسان، ولاسيما أنها مشاكل لا تبدو منجزة على مستوى الحلول؛ إنما هي آخذة بالتعقّد يوماً بعد يوم. ولعل وقوع العالم على مفترق طرق في مواجهة وباء صحي يشي بأن الإنسان لم يكتمل بعد معرفياً، وأن حلم السيطرة على العالم بات أمراً بعيداً عن المتناول، على الرغم من حماس المتفائلين بأن الإنسان قادر على تجاوز كافة الأسئلة التي تشغل الإنسان منذ بدء التكوين إلى الآن.
إن البحث عن الإجابات لا يمكن أن يصادر، على الرغم من اختلاف التصورات والمقاربات، غير أن المعرفة تبقى الصيغة الأكثر واقعية، كونها تتيح التماس المباشر مع الحاجة الإنسانية؛ ولهذا تتخذ مفردات المعرفة، أو البحث العلمي صيغة متقدمة في المنهجيات التي صيغت من قبل الباحثين والأكاديميات عن اشتراطات البحث العلمي – بوصفه ينطلق من مشكلة، ويهدف إلى تحقيق غاية، مع أهمية اللجوء إلى الفرضية، بوصفها منطلقاً للمعرفة. هذه المواصفات بدت في كثير من قيم البحوث عبارة عن نموذج مجرد من أي قيمة حقيقية، سواء أكان على مستوى التطبيق أم النظرية… فهي للكثيرين بدت ممارسة وصفة لإعادة كتابة فوق الكتابة، وهذا ما يعني أن نماذج البحث العلمي لم تعد تتصل بمتطلبات المهنة، أو مبدأ الارتقاء أو الترقي وحسب، إنما أمست البحوث العلمية فاقدة لحقيقة وجودها، فهي بعيدة كل البعد عن الاشتباك بالحياة، كونها تقع في مجال متوار عن الأنظار كي تبقى متداولة في نطاق ربما لا يتجاوز منشأها (البسيط) – على أبعد تقدير- فمعظمها يقوم على المحاكاة والشرح والتفسير، أو الانشغال بالأشكال وصغائر الأمور، أو التموضع حول الموروث، وإعادة إنتاجه في نسخ محدثة، علاوة على النقل عن الغرب، وسلخ معارفه بدون أي إضافة حقيقية.
 
البحث عن الإجابات لا يمكن أن يصادر، على الرغم من اختلاف التصورات والمقاربات، غير أن المعرفة تبقى الصيغة الأكثر واقعية، كونها تتيح التماس المباشر مع الحاجة الإنسانية؛ ولهذا تتخذ مفردات المعرفة، أو البحث العلمي صيغة متقدمة في المنهجيات التي صيغت من قبل الباحثين والأكاديميات عن اشتراطات البحث العلمي.
 
في مقالات سابقة، كنت قد قدمت قراءة لبعض الكتب التي تستهدف قراءة واقع البحث العلمي في العالم العربي، مقارنة مع دول أخرى، كالولايات المتحدة أو دولة الكيان الصهيوني على سبيل المثال، وقد بدت الأرقام حينها باعثة على الإحباط نظرا لتدني مستوى نتاج البحث العلمي العربي وأثره، وفي ندوة أخرى تحدثت عن هذه الأرقام التي بدت صادمة للبعض نتيجة تواضع الحصيلة المعرفية، ما (جعلها، وجعلني) مصدراً للاتهام بتشاؤمية، فضلاً عن رسم صورة سوداوية لواقع العالم العربي، فهناك الكثيرون ممن يؤمنون بأننا لم نصل إلى هذا القدر من الأفول الحضاري، ولكن الشواهد المعاصرة تتضح لنا عبر وقائع العالم العربي على كل المستويات، كونها تتجه للمزيد من السوء، في حين يمكن أن ندعي بأن أي انكسار حضاري لا يمكن تفسيره سوى بالمعرفة، فلا جرم أن نشهد تشقق قيم المقاومة والمواجهة، في مواجهة الهرولة نحو الآخر للبحث عن حلول لمشاكلنا، وبالطبع لا يمكن أن نفسر ذلك إلا بنقص في المعرفة، والاعتراف بوجود أزمة حقيقية، كوننا نعاني من عقم معرفي، مع التأكيد على وجود بعض المنكرين لهذا في ما بيننا، ما يعني بالضرورة عدم قدرة على التبصر، وإدراك فقداننا للكثير على مستوى القوة الحضارية، وهنا لا بد ان أستعيد صدى مقولات المؤرخ يوفال نوح هراري مؤلف كتاب «العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري» الذي ترجم إلى العربية بعد أن وصل الكتاب إلى مستويات قياسية من حيث التأثير، مع التأكيد على أن مؤلفه – الذي يعمل في جامعة حيفا- بدا في كثير من مواضع كتابه متجاهلاً (عن قصد معرفي) لحقيقة تكوينه، وأسئلة وجوده شخصياً، ولاسيما وجوده على أرض سلبت من سكانها الأصليين، كما سلب الأوروبيون أراضي الآخرين، بعد تحقيق فتح معرفي يقوم على الاكتشاف (كما يقول المؤلف) وهنا يورد المؤرخ المثال تلو المثال على الأثر المعرفي، وما استجلبه من آثار كئيبة على انتهاك حقوق الشعوب المكتشفة، وتصفيتها وجودياً، ولاسيما في العالم الجديد، فالباحث ما انفك يعدد الحضارات التي تلاشت بداعي هذا التفوق المعرفي، نتيجة نماذج الاستيطان الكولونيالي الجديد، وعلى الرغم من ذلك، فإن تحليله لأثر المعرفة وتقاطعاته مع النموذج الرأسمالي، بالإضافة إلى تفرد الأوروبيين في تجاوز حدود المعرفة، والرغبة باكتشاف العالم من حولهم يبقى ملاحظاً، حيث يرى بأن هذا التكوين قد أسهم في رسم نموذج جديد للعالم لم يكن ليتحقق لولا هذا التضافر بين المعرفة والقوة، فالباحث يسوق لنا مقارنة قوامها توجهات بعض الأمم، أو الإمبراطوريات التي لم تتمكن من تكوين رؤية معرفية، ومنها نموذج الإمبراطورية العثمانية والصين وغيرهما من الأمم، التي بدت حينها على السوية نفسها من قوة الأوروبيين، فهو يرى أن وعي الأوروبي بقيمة المعرفة، وتداخل تطبيقها مع الواقع كفل لهم التفوق الذي يبدو أقرب إلى سر يتخلل التاريخ، ولكن الإجابة عن هذا السر يتجاوزه المؤلف، حين يشير إلى الاختلاف الجيني أو العرقي المرفوض. الشاهد في هذا النموذج انبعاث التساؤل حول عقم المعرفة الناتجة عن البحث العلمي في العالم العربي، واقتصاره على نتائج هزيلة لا تكاد ترقى للاستجابة لمشكلة الإنسان، ولاسيما أن العربي لا يعدم كثيرها أو قليلها، وهكذا يحق لنا أن نتساءل عن عدم قدرة أي دولة عربية في التحول إلى نموذج اقتصادي متفوق قائم على المعرفة؟ هل يمكن أن نحيل ذلك إلى عوامل بيولوجية أم إلى خلل في التكوين؟ أم ربما يتصل بإشكالية ثقافية ذات طابع تاريخي تتعالق بقصور في تطور العقل العربي الحضاري، بداعي تمكن قيم النماذج العصبية والنظم الديكتاتورية التي لا تتيح خلق وعي بالحرية، الذي يعد أهم اشتراطات نجاح البحث العلمي!
ولعل هذا يقودنا إلى أن نضع الكثير من علامات الاستفهام حول قدرة الأنظمة على إنتاج علماء حقيقيين، لا مجرد أكاديميين؛ بغض النظر عن التخصص، فهذا لا يقتصر على العلوم التطبيقية، وإنما يشمل أيضا العلوم الإنسانية، فمازالت النتاجات العلمية (عربياً) محدودة التأثير على المشهد المعرفي، فضلاً عن غيابها عن منصات قياس معامل التأثير، على الرغم من البدء بوضع مشاريع لمعامل التأثير من لدن بعض المؤسسات، ومع ذلك، فإن العديد من المؤسسات الأكاديمية العربية لا تتفاعل معه، فهو لا يحتسب نظراً لعدم قدرته على توفير آلية عمل تتمكن من قياس النتاج العلمي العربي، فلا عجب أن تبقى البحوث العربية محدودة التأثير، في حين أن باحثيها لا يمتلكون مؤشرات على جودة بحوثهم، ومكامن تأثيرها.
وختاماً، فقد لوحظ أن لعنة الهزيمة تطال كل ما يتصل بالعربي، بما في ذلك دراساته وبحوثه، ومؤسساته، وكل ما يتعلق باللغة العربية التي تفتقر لتقدير أبنائها، فغالباً ما نرى أن كل ما يتعلق بها يفتقر إلى الاحترام، أو الوعي بأن ثمة ما هو حقيقي، فيغيب الدعم، كما لوحظ بأن ثمة خجلاً من الذات يكاد يكون متأصلاً في البنية الحضارية للوعي العربي الذي ينظر إلى كل ما ينتجه بدونية، أو هامشية قد تصل إلى حد الاحتقار، في حين يرفع من شأن ما هو غير ذلك.
 
٭ كاتب أردني فلسطيني