الغد
ثمة الآن جدل يشكك أحد طرفيه في عملية «طوفان الأقصى» الفلسطينية ونتائجها، ويقرؤها من زاوية الخسائر البشرية والمادية الجسيمة بلا شك. البعض من هذا الفريق ينطلق من مبعث الألم والتعاطف. لكن ثمة آخرين يعبرون عن نوع من الشماتة في أصحاب الرأي الآخر، وربما الضحايا، وكأنه يقول: «ألم أقل لكم؟ تستأهلون»! لكنّ الخطاب الذي ينطلق منه هؤلاء ربما يكون في حقيقته دفاعًا غير واعٍ عن النفس في مواجهة قضية أخلاقية ووطنية وإنسانية، على أساس تبرير موقف الخضوع بدعوى الضعف. ويتحدث هذا الموقف عن شيء من قبيل: «لماذا لا تقعدون وتسكتون مثلكم مثل باقي الخلق في المنطقة، مثلنا نحن الواقعيين، نحن الذين نبقي بلادنا مستقرة وآمنة؟ وما دخلك أنت في قضايا غيرك حتى تضحي من أجلها؟ وأنتم أيها الفلسطينيون، عليكم أن تقعدوا وتسكتوا أكثر من غيركم لأنكم تواجهون وحشًا»؟
ولعل أغرب تجلٍ لهذا الموقف هو ما عبّر ويعبر عنه «الفلسطينيون الجيدون» -أو الذين يعتقدون أنفسهم كذلك لأن أميركا بالتحديد تعرّفهم هكذا، كجزء من «العرب الجيدين»، و»البشر الجيدين» الذين يقود معسكرهم بنيامين نتنياهو نفسه، كما يقول. وبالتأكيد، يعتقد الذين يوزعون التصنيفات بأن «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، و»العربي الجيد هو العربي الميت»، ويعملون على أساس هذا الاعتقاد. وليس بالضرورة «الميت» بالمعنى البيولوجي، وإنما يمكن القبول بالموت الحيوي: «الحياد» بمعنى عدم القدرة على فعل شيء، أو الاقتناع بأنها ليس ثمة إمكانية ولا وسيلة لفعل شيء، على طريقة الذي خاطبه الشاعر العربي: «دع المكارمَ، لا ترحل لبغيتها/ واقعد فإنكَ أنتَ الطاعم الكاسي».
«الاستقرار» و»الأمن» هي أبعد الأشياء عن أي بلد عربي في الإقليم قاطبة. وإذا كان ثمة أحد لا يرى بحار الدم والاضطراب في العقود الأخيرة في الإقليم، فليسمع ما قاله دونالد ترامب من أنه سيجلب الجحيم إلى الشرق الأوسط بسبب بضعة أفراد من الكيان محتجزين لدى المقاومة في غزة – وكأن هؤلاء أعلى قيمة من كل العرب وغير العرب والمنطقة كلها. بل ثمة الذين يروجون لـ»الاستقرار»، بمعنى عدم فعل شيء، حتى عندما تكون بلدانهم تحت التهديد المباشر العلني من قادة الكيان، المؤيدين من غالبية مواطنيهم. ولا يرى هؤلاء تأثير الدومينو حتى آخر حجر، ذهابًا إلى «الشرق الأوسط الجديد» المكوّن كله من جماعة «النعمة» بقيادة قاتل الأطفال بنيامين نتنياهو؛ شرق أوسط «الجيدين» الواقعيين المطواعين.
بالنسبة للشعب الفلسطيني بالتحديد، يتعلق الأمر بما لا يقل عن مواجهة استعمار استيطاني إحلالي. وشرط هذا النوع من الاستعمار هو اقتلاع السكان الأصليين واستبدالهم بالمستعمرين، مكانيًا وتاريخيًا. وبالتأكيد، لا يمكن فهم النصر والهزيمة في هذا السياق بمعناهما التقليديين. النصر في السياق الفلسطيني لا يقتصر على طرد المستعمر فحسب، بل يعني أيضًا الحفاظ على الوجود الوطني والهوية الثقافية في وجه الإبادة والإقصاء. وفي هذا السياق، تعني المقاومة عدم انتهاء الصراع، والعكس صحيح. عدم المقاومة، بأي كلفة، يعني حسم الصراع لصالح مشروع الإحلال والخروج من التاريخ. والمقاومة تعني إضعاف المشروع الاستيطاني وجعله مكلفًا وغير مستدام. كما أن إدامة الرواية التاريخية وتعزيزها محليًا هما جزء أساسي من الانتصار على محاولات محو الهوية. ولم يبق أحد تقريبًا لم يتحدث قبل الاشتباك الأخير عن تهميش قضية الفلسطينيين وإرسالها إلى النسيان.
الهزيمة الحقيقية بالنسبة للفلسطينيين، كضحايا لاستعمار استيطاني إحلالي، تحدث فقد إذا نجح العدو في إفقادهم هويتهم أو دمجهم قسرًا في النظام الاستيطاني. تحدث إذا تم التخلي عن المشروع الوطني، عندما تتبنى قياداتهم خطابًا أو ممارسات تقر بشرعية المستعمِر أو تتنازل عن الحقوق الأساسية.
عندما يتعلق الأمر باشتباك لبنان مع العدو، ظهرت صورتان واضحتان في غاية الوضوح، كشفتا عن الطرق المختلفة التي تُفهم بها معاني النصر والهزيمة. ثمة المشهد في جنوب لبنان، حيث عاد السكان إلى قراهم ومنازلهم فور سريان وقف إطلاق النار. وقد احتفل أغلب أهل الجنوب بشكل عفوي، بطريقة عكست إحساسًا جماعيًا بالنصر والتلاحم مع المقاومة. وقد عبر العائدون، الذين تحدثوا على شاشات التلفزة مباشرة، عن الفخر والصمود، وعن قوة متجددة حوّلت بقاءهم في حد ذاته إلى صورة من صور الانتصار.
وعلى الجانب الآخر، في شمال فلسطين المحتلة، بدت الصورة مغايرة تمامًا. لم يعد أي مستوطن تقريبًا إلى المستعمرات القريبة من الحدود. وكانت قرارات البلديات، المتماشية مع توجيهات الدولة، واضحة: الوضع غير آمن، والعودة مرفوضة إلى حين توفير حماية كاملة للمستوطنات. ويعكس هذا الامتناع عن العودة شعورًا ملموسًا بالضعف وفقدان الثقة، ويلقي الضوء على بُعد نفسي للصراع يتجاوز ساحة المعركة المادية.
النصر والهزيمة ليسا أرقامًا، وإنما شعوران راسخان في إدراك الأطراف ذاتها لما حدث. بالنسبة للجنوبيين في لبنان، أظهرت قدرتهم على العودة إلى ديارهم، على الرغم من الدمار والخسارة، نصرًا معنويًا ونفسيًا ناجمًا عن قناعة غير مصطنعة بالقدرة على الصمود، واحتفالا بقدرة المقاومة على التصدي لواحد من أقوى الجيوش في العالم. وفي المقابل، عكس سلوك المستوطنين وضعًا نفسيًا مغايرًا. أفصح غياب المستوطنين عن المستعمرات الشمالية عن فقدان الثقة- ليس في قدرة نظامهم على حمايتهم فحسب، بل في جوهر وجودهم في أرض يعتبرونها موضع نزاع. هذا الخوف هو الوجه الآخر للهزيمة؛ وهو جرح عميق في الوعي الجمعي، يُذكرهم بهشاشتهم، ولا يمكن لأي تفوق عسكري أن يداويه.
بالنسبة للكيان الصهيوني ومستعمريه، يعني النصر العيش المستقر بلا تهديد للمشروع. ولا أمنَ بالتأكيد في العيش مع السلاح وتحت حماية الجنود وخلف الأسوار. وفي المعركة الحالية، أصبح خوف المستعمرين كثيفًا كما لم يكن في أي وقت– تدل عليه الوحشية الهائلة التي لا يرتكبها إلا خائف على شيء لا يقل عن وجوده نفسه. ولم يسبق أن تكررت في الأدبيات العالمية عبارات «نهاية إسرائيل»، أو «بداية نهاية إسرائيل» مثلما تتكرر الآن، وبالكثير من المسوغات. ويُفترض أن تعبر هذه القراءات المتكاثرة عن شعوب بانتصار الفلسطينيين والمقاومة في هذا الطور من الصراع، وبأن التضحيات لم تذهب سدى. الفلسطينيون قالوا إنهم هنا ولن يذهبوا إلى أي مكان. ولأول مرة حارب معهم أحد وناصرهم بالدم. والعدو خائف كما لم يكن في أي وقت من قدر تتأكد حتميته طالما ظلت المقاومة. وخوف الطغاة هزيمة.