عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Oct-2020

الثقافة الشعبية… التفهّم بدل الفهم

 القدس العربي-سلمى عراف ـ بيكر

هناك علاقة بين التفهّم والفهم، ولكن ليس بالضرورة علاقة طردية. فالتفهّم هو مرحلة تسبق الفهم التام؛ هو الفهم التدريجي، إذ يبدأ الإنسان الفهم شيئاً فشيئاً، إدراكه، تقديره، ووعيه، قبل أن يفهمه بشكل كامل. وهي مرحلة قد تتسم بالسطحية، ما لم يتطور فيها الفكر في اتجاه التعمق. أما الفهم فهو تلك المرحلة التي يتم التوصل فيها إلى حسن تصور المعنى، وتنم عن مقدرة وجودة استعداد الذهن للاستنباط. والفهم العميق ينم عن عملية استبطان، أي فهم «كلي» للأمور ومجراها، أسبابها، تفاعلاتها، نتائجها، واستخلاص العبر منها، وإن لم تتفق أحيانا مع مفاهيمنا، وإن لم ترق لمبادئنا وطرق تفكيرنا (عقليتنا مثلا).
ونضع «كلي « بين هلالين، لأن التفسيرات قد تبقى غير شاملة، وبذلك غير كاملة، ولكنها تبقى أقرب الى هذا المستوى في معالجتها بشكل أكثر موضوعية، خاصة أن مقدرة الإنسان هي مقدرة بشرية، كما تعبر مدلولات الكلمة. وكثيرا ما يمكث الإنسان في تفكيره في منطقة التفّهم، الواقع غالبا تحت تأثير عملية غير استدراكية تجعله يبدي تقبّلا لفكرة بدون الذهاب إلى العمق في فهمها. إذ نجده يستمال لما يقال أو يروّج له بشكل يتلاءم مع نزعاته وشهواته، وأحيانا حتى فكره الباطني. وغالبـــا ما يرفض الإقــــلاع عن هــــذه الأفــــكار، وإن تم تفسيرها وتوضيحها. ولو قمنا بترقب ما يحـــدث في المجتمع الإنساني في هذا الزمان، زمان الثورة التكنولوجيـــة، وما يتم تناقله قولا وكتابة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها المدونات أو المذكرات الإلكترونية والمنتديات، لرأينا أن ظاهرة التفهم أصبحت تميز المجتمعات الحديثة، وعلامة لانتشار الأفكار السطحية، التي قلما تندمج مع تلك العقلانية، التي تتسم بالتحري والبحث وراء الحقائق وفهم وجودها بالأساس.
ثمة عدد قليل من البشر يتأثر بهذا التوجه «التعاطفي» (ربما بحكم طبيعة الإنسان) لدرجة أنه يصبح مسيطرا على طرق تفكيرهم وشخصيتهم. فتراهم يندفعون وراء مواقف مشابهة ويتصرفون بناء على نموذج تفكير قُدّم لهم، بدون التأكد من صحة معطياته ومدى تداعياته. وقد يرجع السبب لقوة هذه الظاهرة إلى عنصرين مهمين على الأقل. أولا، التراجع الثقافي الذي تشهده المجتمعات نتيجة الإقلاع عن القراءة، والاعتماد بشكل شبه كامل على ما تقدمه الشبكة العنكبوتية من معلومات ومعطيات جاهزة للاستهلاك، فتعطل الجهد والتحليل الفكري للفرد وتجعله مستعبدا لخدماتها .
أما العنصر الثاني، وهو غير منفصل عن الأول، فيرجع إلى مدى التأثر بالبيئة المحيطة، وبشكل خاص ما يسمى «بالثقافة الشعبية» إذ ينقاد الفرد إلى ذلك التيار كي لا يظهر مختلفا عن غيره، فيتجنب أسهم الانتقاد والنعوت السلبية، كالتعصب، والتحفظ، وعدم التسامح، والحساسية المفرطة وما شابه، وكلها صفات تتعارض والمفاهيم التحررية، التي يسعى الجميع لتطبيقها، كما يروج مناصرو الثقافة الجماهيرية، وبذلك يخضع الفرد إلى تأثير أشخاص يتميزون بقدرة تعبيرية تفوق قدراته على التفكير والتحليل، أو موهبة التعبير.
هذه المجموعة المسيطرة هي تلك التي تتخذ من الترويج أسلوبا ونهجا لدعم قوتها، وهي بذاتها التي تحاول صنع ثقافة جماهيرية هدفها أن تجعل الأغلبية تعتقد، بل تؤمن، بأن مثل هذه الثقافة هي النموذج الذي يمثل المجتمعات الحديثة، ويجب اتباعها، طالما أن عددا كبيرا من الناس يتبعها ويتبنى آراءها وأفكارها.
من هنا تتبلور الفكرة أن الاندماج بمثل هذه المجموعة يجعل المنضم إليها يبدو أكثر عصرنة ووعيا وفهما للأمور ومجرياتها، وإن كانت في الحقيقة غير صحيحة، أو غير مقبولة، حتى على مستوى القيم الأخلاقية، ولكنها طبّعت بشكل او بأخر لتظهر بمظهر صحيح ومقبول. هذا هو أحد جوانب الثقافة الشعبية المترجمة عن مفهوم
الـ (Pop Culture) المعروفة باللغة الإنكليزية، التي تميز توجهات المجتمعات الغربية بشكل عام. ظاهرة آخذة بالتطور والانتشار على نحو واسع النطاق وتعتمد بفحواها على استغلال طاقات بشرية سهلة الانقياد، بسيطة في تفكيرها، وعادة ما تفتقد إلى إطار اجتماعي يعرّف هويتها. طاقات تنضم إلى ركب الثقافة الجماهيرية لكي تصبح شبيهة بكل من انضم إلى هذا الركب، وتُقْبَل اجتماعيا كشخصية محببة، مطواعة، ليست مختلفة بالفكر أو بالرأي. ويبقى الأهم في الموضوع هو فهم تداعيات هذه الظاهرة وتحاشي جوانبها الخطرة، والعمل على الحد من الانصياع لها. ويمكن مجابهة هذه الظاهرة واستثمار تلك الطاقات بشكل إيجابي وأكثر فاعلية في سبيل إنتاج مجتمع أكثر صحة وجيل متحرر من عبودية «الاستغباء» إذا صح التعبير، والتجهيل، والتبعية العمياء؛ مجتمع مبني على أسس صالحة، قوامها الفهم والوعي والتحليل الفكري والنقد البناء، مدعومة بمنظومة من القيم الأخلاقية والإنسانية الحقيقية. لا شك في أن هذه المسيرة ليست سهلة لمواجهة تيار كهذا في زمن ثورة تكنولوجية تجتاح كل بقاع الأرض، ولكنها أيضا ليست مستحيلة، ويمكن الإنطلاق بها تربويا، بدءاً من البيئة المنزلية، وتدعم بتكاتف جهود المثقفين المسؤولين، ذوي الضمائر الحية، الغيورين على مصلحة أبناء مجتمعاتهم، من أجل إعادة بناء مجتمع إنساني صالح، يحترم الإنسان، يقوده للسعي نحو تقدير وجوده في هذا العالم، ويشجعه على تقييم أفضل لقدراته الذهنية، ورفع معنوياته النفسية، بدل التفتيش عن من يفكر عنه أو بدلا منه.
 
٭ كاتبة فلسطينية