فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية
الشرق الاوسط-بيروت: محمود الزيباوي
بدأ مشوار فيروز في عالم الغناء مع دخولها الإذاعة اللبنانية رسمياً في فبراير (شباط) 1950، حيث تردّد صوتها بشكل متواصل ثم انتشر بتعاونها مع الأخوين رحباني، ودخولها معهما محطة الشرق الأدنى ثم الإذاعة السورية. حصدت النجمة الناشئة الشهرة باكراً، غير أن هويّتها الشخصية ظلّت محتجبة، كما أن صورة وجهها ظلّت مجهولة، إلى أن قدّمتها مجلة «الصياد» في 13 ديسمبر (كانون الأول) 1951 ضمن ركن أسبوعي يحمل عنوان «أرشيف الفن».
جاء في هذا التعريف: «هذه أول صورة تُنشر للمطربة فيروز في الصحف، و(الصياد) هي أول صحيفة تثير مشكلة هذه المطربة التي يملأ صوتها المخملي عشرات التسجيلات في جميع محطات الإذاعة العربية، ومع ذلك فهي لا تكسب في لبنان أكثر من مرتب فتاة كورس، أي أقل من ثمن فستان من الدرجة (الترسو). وعيب فيروز أنها دخلت قصر المجد الفني من باب الإذاعة، وهو أضيق أبوابه، وهي لا تزال طالبة ومن أسرة فقيرة مؤلفة من 9 أشخاص ينامون جميعهم في منزل متواضع جداً مؤلف من غرفتين، وليس لهذه العائلة ثروة ومورد غير صوت فتاتها الصغيرة الذي يتألق دائماً في جميع البرامج الموسيقية بمحطة الإذاعة، ولكن بالسخرة ومجاناً لوجه الفن الربيع. وقد ذهبت جميع المحاولات، حتى التي بذلها الأخوان رحباني، في حمل فيروز على الظهور أمام الجماهير، فالفتاة خجولة يحمرّ خداها ويتلعثم لسانها إذا قال لها أحد زملائها أحسنتِ يا ست، وعندما تتكامل قوى فيروز النفسيّة وتظهر على المسرح ستكون النجمة التي رشّحتها وترشّحها (الصياد) لاحتلال مكان الصدارة بين المغنيات اللبنانيات. وكل ما نرجوه من حضرة مدير الأنباء والإذاعة هو أن يشملها بعطفه لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يُنصف هذه الفنانة الضعيفة».
نُشر هذا التعليق في وقت سطع فيه اسم فيروز في محطة الشرق الأدنى عند اشتراكها في العمل مع «ملك التانغو» الشهير إدواردو بيانكو. وفق ما نقلت مجلة «الإذاعة»، قام صبري الشريف، مراقب البرامج الموسيقية في هذه المحطة، بدعوة بيانكو ليسجل بعضاً من أعماله مع فرقته الموسيقية، ورأى أن يجري تجربة جديدة تجمع بين هذه الفرقة وبين الغناء الشرقي، فقام الموسيقار بإجراء تجربة لصوت فيروز فأعجب به، ثم شرع في العمل معها بمشاركة الأخوين رحباني.
حكاية الحوار الصحافي الأول
بثّت محطة الشرق الأدنى في هذه المناسبة حديثاً للآنسة إنعام الصغير مع «المطربة الجديدة فيروز»، ونشرت نص هذه المقابلة في المجلة الخاصة بها في مطلع عام 1952، ويُشكّل هذا الحوار أول حديث معروف لفيروز كما يبدو. سألت المحاورة ضيفتها «المطربة الجديدة» عن اسمها وعن سبب اختيار فيروز اسماً فنياً لها، فأجابت: «اسمي نهاد حداد. ولم أكن أنا التي اختارت اسم فيروز، ولكن عندما ابتدأت الغناء اقترحوا عليّ هذا الاسم ولم أمانع لأنه اسم جميل». ثمّ تحدّثت عن بداياتها، وقالت: «وصلت في دراستي إلى الدراسة الابتدائية، ولكن الفن أرغمني على تلبية دعوته فاضطررت إلى ترك المدرسة ومتابعة الدروس الخاصة». وسألتها المحاورة: «كيف تعلّمت الموسيقى؟ ومن اكتشف هذا الكنز المخبّأ في حنجرتك؟». فأجابت: «كانت مديرة المدرسة تعرف أن لي صوتاً لا بأس به، وفي زيارة للملازم فليفل، الأستاذ أبو سليم، أتت بي لأغني أمامه فأُعجب على ما يظهر بصوتي وطلب مني أن أذهب لتعلم الغناء في المعهد الموسيقي اللبناني. فذهبت، وأخذ يقدمني في الإذاعة اللبنانية». وكان السؤال التالي: «ومن أوّل من طلب منكِ أن تغني في الإذاعة؟». جاء الجواب ملتبساً: «لا أدري في الحقيقة. فكانوا كُثْراً. كلّ يعتبر نفسه أنه هو من خلقني وأوجدني، والحقيقة أن أول أغنية غنيتها، غير الأناشيد الوطنية، كانت أغنية للأستاذ حليم الرومي، وهي أول أغنية أذعتها باسمي الجديد الخاص فيروز».
واصلت فيروز الكلام، وتطرّقت إلى الأمور العائلية التي واجهتها في مهنتها، فقالت: «اعترض والدي في البدء، ولكن عندما وجد أنني مصرّة على الغناء وأني أميل إلى الفن بطبيعتي، وافق وصار من أنصاري». انتقل الحديث إلى «اللون الموسيقي» الذي عُرفت به، وهو «مزيج من الموسيقى الغربية والشرقية»، فأوضحت: «الحقيقة أنني أغنّي في بعض الأحيان لوناً شرقياً خالصاً، وفي أحيان أخرى لوناً غربياً معرّباً، وأنني في الأوبريت مثلاً والبرامج الخاصة، أغني غناءً تمثيلياً ذا طابع شرقي مفطور، ينسبه بعض الناس إلى الموسيقى الغربية». في الختام، سألت المحاورة ضيفتها: «ماذا تنوين عمله في المستقبل؟». فأجابت: «أود أن أتابع دراسة الموسيقى، وليس في نيّتي الآن الظهور لا على المسرح ولا على الشاشة».
من مسرح المدرسة إلى الإذاعة اللبنانية
تعدّدت الروايات التي تحدّثت عن انطلاقة فيروز، وتبدّلت تفاصيلها مع مرور الزمن، وأولاها على الأرجح هي تلك التي سجّلها الصحافي المصري محمد السيد شوشة في 1956، ونقلها في كتابه «فيروز المطربة الخجول». في مقدّمة هذا التحقيق، ذكر شوشه والد فيروز، وديع حداد، وقال إنه عامل يرتدي الثياب الزرقاء في مطبعة صحيفة «لوجور» في بيروت، استمرّ في هذا العمل بعد بروز ابنته ونجاحها. تطرّق الصحافي إلى سيرة نهاد حداد في طفولتها بإيجاز، وقال: «هي إحدى 4 أشقاء، 3 بنات وهن نهاد وهدى وآمال، وولد يُدعى جوزيف»، والغريب أنه لا يأتي على ذكر والدتها. ثم يضيف: «كانت أسرة فقيرة تعيش على الكفاح، ولكن الأب أخذ يقتصد من دخله القليل ليعلّم أبناءه، فألحق نهاد بإحدى المدارس الابتدائية، حيث ظهر نبوغها في إلقاء الأناشيد، وأصبحت موضع إعجاب مدرّساتها، يُظهرنها في الحفلات المدرسية كصاحبة أجمل صوت في المدرسة».
وسمعها محمد فليفل في إحدى هذه الحفلات الموسيقية، «فأعجب بصوتها، ونصح والدها بأن يوجهها توجيهاً موسيقياً، وبأن يلحقها بمعهد الموسيقى، فوافق الأب على ذلك، ومنذ ذلك التاريخ، بدأ الرجل يتعهّدها بالتعليم، فحفظت عنه الأناشيد، وبعد ذلك ضمّها إلى فرقته التي كانت تذيع برامج مدرسية من دار الإذاعة اللبنانية باسم فرقة الأخوين سليم ومحمد فليفل. من هنا لفتت المطربة الصغيرة نظر حافظ تقي الدين سكرتير برامج الإذاعة في ذلك الحين؛ فقد وجد في صوتها معدناً نادراً، ما جعله يسرع بالذهاب إلى مكتب رئيس الموسيقى ويقول له: (تعالَ معي إلى الاستديو، فهناك مفاجأة)». دعا مدير القسم الموسيقي حليم الرومي للاستماع إلى هذه الصبية، ففعل، وتحمّس لها، وألحقها بالكورس النسائي الخاص بالإذاعة.
حليم الرومي يروي قصة اللقاء الأول
قبل أن ينشر محمد السيد شوشة هذه الرواية، استعاد حليم الرومي قصة اكتشافه لفيروز في مقالة نشرها بمجلة «الإذاعة» في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، وذكر فيها أن حافظ تقي الدين دلّه في الاستوديو إلى الصبية التي أعجب بصوتها، فنظر إليها، ولم يبدُ له «أن شيئاً مهمّاً يكمن في صدر هذه الفتاة وحنجرتها»، فطلب منها أن توافيه إلى المكتب، ففعلت، فسألها عن اسمها، «فقالت بخجل ظاهر جداً نهاد حداد». واصل حليم الرومي روايته: «طلبت إليها أن تغنّي، فاحمرّ وجهها احمراراً شديداً، فما كان منّي إلّا أن شجّعتها، ووعدتها بإعطائها عملاً شهرياً منظّماً إذا نجحت في التجربة، فما كان منها إلّا أن بدأت الغناء بموال (يا ديرتي مالك علينا اللوم) لأسمهان، فلمست في صوتها أشياء جديدة غير موجودة في بقية الأصوات، فقد شعرت إلى رخامة الصوت وعذوبته بأن قلبها هو الذي يغنّي، وشعرت بأن هذا الصوت قوة نحن بحاجة إليها. وبعد أسبوع، كانت نهاد موظّفة في محطة الإذاعة اللبنانية، وقدّمتها في أولى حفلاتها باسم فيروز وهو الاسم الفني الذي اتخذته لها بموافقتها، وغنّت من ألحاني وألحان مختارة أخرى لأنجح الملحنين اللبنانيين والمصريين، وتفتح ذهنها والتهب حبها لهذا الفن، وكانت تتفوّق على نفسها في كل مرة تحفظ فيها الألحان؛ ذلك أنها فنانة بطبعها وروحها وعروقها».
تلميذة «حوض الولاية للبنات»
بعد عقود طويلة، روى محمد فليفل قصة اكتشافه لفيروز بعد أن بلغ الثمانين من عمره، وذلك في حوار صحافي أجرته معه هدى المر، ونشرته مجلة «المجلة» في عام 1980. تقول هذه القصة إن الأخوين محمد وأحمد فليفل كانا يحضران لتقديم عمل بعنوان «نشيد الشجرة» عبر الإذاعة اللبنانية، وكانا بحاجة إلى أصوات جميلة لتنفيذ هذه المهمة، فبدآ رحلة التفتيش عبر المدارس، وكانت إحدى محطاتهما مدرسة «حوض الولاية للبنات» حيث قدمت لهما مديرة المدرسة سلمى قربان فرقة المنشدات التي راحت تنشد أمامهما. لفت سمع محمد فليفل صوت الطالبة الصبية نهاد حداد، فتبنّاها فنياً، وأدخلها الكونسرفاتوار لتدرس أصول الموسيقى تحت إشرافه، فصارت تحضر يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع لتتعلم أصول النوتة الموسيقية.
تابعت الصبية هذه الدراسة بشغف، فكانت «الطالبة التي تقضي كل أوقاتها في التمارين الموسيقية، وتبلورت موهبتها، وزادها توهّجاً درسها الموسيقى الغربية والشرقية، والإنشاد الصوتي والغنائي، وكذلك التمارين التي كانت تقوم بها من أجل تهذيب لفظها العربي وإلقائها التمثيلي». وسأل أستاذها مدير الكونسرفاتوار وديع صبرا عن رأيه فيها، فرأى أنها ممتازة، «وبعد أن أجرت الامتحانات النهائية، كانت نتائجها باهرة، واستحقت إعجاب اللجنة الفاحصة».
واصل فليفل الكلام، وتحدث عن التحاق نهاد حداد بعملها في الإذاعة، وتختلف روايته عن تلك التي قدّمها حليم الرومي. فحسب هذه الرواية، حضرت نهاد حداد أمام لجنة امتحان الأصوات، التي ضمّت حليم الرومي وخالد أبو النصر ونقولا المني، وأدّت موال أسمهان الشهير «يا ديرتي ما لك علينا لوم»، بمصاحبة الرومي الذي ذهل بصوتها، فترك العود، وراح يحدّق فيها. جرى تقييم نهاد حداد بوصفها تلميذة أكملت دروسها الموسيقية، وليست مبتدئة، «واستقرّ الرأي على أن تدخل ضمن ملاك الإذاعة براتب شهري قدره 100 ليرة لا غير». نقع على روايات أخرى تتضارب كذلك في التفاصيل، والثابت أن نهاد حداد تتلمذت في مطلع صباها على يد محمد فليفل، ودخلت معه الإذاعة حيث قدّمها حليم الرومي باسم فيروز. ولمع هذا الاسم منذ بداية انطلاقه، وتوهّج حين ارتبط عضوياً بالأخوين رحباني.
«كوكب البرامج الرحبانية»
في مطلع عام 1952، كتبت مجلة «الفن» المصرية: «أصبح إنتاج الأستاذين عاصي ومنصور رحباني يملأ برامج محطات الإذاعة في لبنان ودمشق والشرق الأدنى، وقد فاوضتهما أخيراً محطة بغداد لتسجيل اسكتشات عدة وأغنيات بأجر ممتاز، وقد تلقّت المطربة الشابة فيروز، وهي كوكب البرامج الرحبانية، رسالة من الموسيقي العالمي إدواردو بيانكو يعرض فيها عليها إقامة حفلات عدّة في مسارح نيويورك وباريس، وذلك بعدما سجّلت أثناء وجوده في لبنان بعض أغانيه العالمية بصوتها الساحر، ووُفّقت في غنائها كل التوفيق».
تابعت فيروز مسيرتها الإذاعية، وشكّلت مع الأخوين رحباني ظاهرة فنية حصدت مجدها الأول خلال عامين من العمل المتواصل، وتكشف مراجعة هذا النتاج عن الكثير من الأحداث المثيرة والمجهولة.