عن محمد يونس وبنغلاديش.. والهند!*د. زيد حمزة
الراي
الدكتور محمد يونس هو أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة شيتاجونج ببنغلاديش الذي أسّس عام ١٩٨٣ بنك «غْرامين» المتخصص بمنح القروض الصغيرة للفقراء كتجربة جريئة نجحت وأهّلته في بضع وعشرين سنة للحصول على جائزة نوبل للسلام لعام ٢٠٠٦، وواصل مسيرته مخلصاً لرسالته تصحبه سمعته الحسنة حتى اختارته الثورة الطلابية الشهر الماضي (٥ آب ٢٠٢٤) بعد انتصارها على الفساد والدكتاتورية، رئيسا مؤقتا للحكومة الانتقالية كي يقود البلاد الى حين اجراء انتخابات ديمقراطية حرة نزيهة.
ولدى عودتي لملف مقالاتي للاستقصاء عما إذا حوَت شيئا عنه فوجدت انني بدأت الاهتمام به وبمصرفه منذ وقت طويل بمقال في «الرأي» ١/١١/١٩٩٦ بعنوان «بنك الفقراء» الذي قال إنه أسسه لأن معظم البنوك الأخرى قائمة على أسس لا يمكن ان تخدم الفقير! لا بل انها تتخلى عن غير القادرين فلا تشركهم في دورة رأس المال، وحتى المؤسسات التي لها اسماء براقة وأهداف جذابة مثل البنوك التعاونية والانمائية لا تسد هذا الفراغ بإشراك غيرالقادرين.. ويومها غامرتُ بالترحيب بمبادرة هذا المصرفي البنغالي وانا اعرف مدى كره اصحاب البنوك التقليدية له وبالتالي غضبهم عليّ لأني سلّطت الضوء على مشروعه الوليد، فقد قال لي أحدهم: هذا مهرج سوف يفشل وينتهي الى السجن مداناً بالتسبب في افلاس مصرفه ووقوع آلاف الفقراء فريسة للديون المتراكمة عليهم! لكن ما حدث على ارض الواقع كان العكس، فبعد عشر سنوات ظفر بجائزة نوبل للسلام مناصفة ًمع مصرفه «غرامين»، وأثبت انه ليس فاشلا ولا متهورا فخيّب ظن الذين توقعوا افلاسه.
صحيح أن مثل هذا البنك من وجهة نظري السياسية والاقتصادية المتواضعة لا يمثل الحل السحريّ لمشكلة الفقر في المجتمعات ولا يجابه تغوّل رأس المال على الفقراء في نظام السوق المنفلت، بيد ان من القسوة ايضا وصْمُه بتمييع الصراع الطبقي.(!)
أما وانا أستأنف الحديث عن الثورة الطلابية في بنغلاديش ولا يغيب عن بالي ابدا ان مسيراتها الحاشدة في شوارع وميادين العاصمة دكا كانت تعجّ بالأعلام الفلسطينية، فاني أجد نفسي أعود إلى اصل اهتمامي الأقدم غير المتعلق بالبنوك وما ماثلها بل بالهند الكبرى نفسها يوم كانت في اربعينات القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية تشعل حماسنا الوطني كتلاميذ في المدارس بحركة تحرير هائلة الاتساع تشمل كل شعوبها للتخلص من الاستعمار البريطاني وهو عدونا الأساسي آنذاك، وتثير إعجابنا بشجاعة زعمائها التاريخيين من أمثال نهرو وغاندي، لكننا في آذار١٩٤٧ وبدلا من فرحنا بانتصارها وإعلان استقلالها موحَّدةً على كامل ترابها، تمزقت قلوبنا الصغيرة أسىً ومرارة ونحن نشهد المؤامرة البريطانية المحضَّر لها مع العملاء تنجح في تقسيمها على أساس ديني إلى دولتيْ الهند والباكستان، ورغم ان شعوبنا العربية عانت الويلات من مخطط التقسيم (سايكس بيكو) البريطاني الفرنسي ومن وعد بلفور المدمِّر الذي ادى الى انشاء إسرائيل في قلب الوطن العربي ونكبة الشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨، فإنها وجدت حكوماتها يومها ودون أدنى التفاتة لهذه العبر القاسية ترحب بالدولة الإسلامية الجديدة القائمة على مبدأ التقسيم «باكستان»، التي عندما تابعنا بعد ذلك أحوالها الملتبسة وهي تتخبط في خلاف واختلاف بين قسميها الشرقي والغربي لم نستغرب نشوب صدامات مسلحة بينهما عام ١٩٧١ سميت في باكستان الشرقية «حرب تحرير واستقلال بنغلاديش"وادت الى انفصالها عن الباكستان، وانتهجت كل منهما اساليب مختلفة في الحكم والسياسة والاقتصاد!
أما اليوم وبعد الثورة الطلابية ومن أجل الاطلاع على الوضع في بنغلاديش فقد لجأت لمقال الكاتب الهندي الكبير ڤيجايپراشاد في الصحيفة الاستقصائية المستقلة «كونسورتيوم نيوز“٢٨/٨/ ٢٠٢٤ بعنوان «بنغلادش على الفور“حيث تساءل عما ستسفر الانتخابات الجديدة وهل سيبقى نهج الحكم اسلامياً؟! وأبدى مخاوفه من تسلل عناصر الليبرالية الجديدة التي تقف وراءها اميركا (ومن عندي ربما إسرائيل ايضا)، ونبّه قائلاً ان بنغلاديش بلد كبير لا يُستهان به فهو الثامن في العالم من حيث عدد السكان، وبالنسبة لناتجه المحلي الاجمالي فهو ثاني اعلى ناتج بين بلدان جنوب آسيا.. والمقال يطول مليئاً بالمعلومات والتحليلات الجديرة بالرجوع اليها.
وبعد.. يا خوف قلبي من انقلاب عسكري وشيك تحضًر له وتقف وراءه كالعادة بكل مظاهر البراءة الخادعة، الدولةُ الخبيرة المحنكة في هذا الشأن (حتى في غياب كيسنجر) مستخدمةً فيه الجاهزين لديها من“صبية شيكاغو »، ومستغلةً براءة أو سذاجة الطلاب الثوريين، ولا نستبعد طيب النية محمد يونس نفسه!