عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-May-2025

حربان إمبرياليتان، والغاية واحدة..! (2-2)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

في العالم الذي نافست فيه على الهيمنة العالمية، ثم انفردت بها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورثت الولايات المتحدة "ممتلكات" المؤسسة الاستعمارية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان من جملة ما ورثته استمرار التحكم في إدارة الشرق الأوسط –وأهم ما فيه العرب- كشرط مُسبق وضروري لإدامة هيمنتها العالمية. وربما كان أهم رصيد ورثته أميركا في المنطقة هو الكيان الصهيوني الذي أسسته بريطانيا، وخريطة القسمة القطرية التي ابتكرتها "سايكس-بيكو".
 
 
على عكس الصين، أو الاتحاد الروسي، أو الاتحاد الأوروبي، كقوى متحققة، ظل العرب قوة بالإمكان؛ ليس مثل أي دولة أو كيان أو تكتل آخر. وجرى العمل الحثيث، على مدى أكثر من قرن، لإبقائه كذلك. وقد يتساءل المواطن العربي: لماذا هذا الدأب على استهداف العرب ومستقبلهم إلى هذا الحد؟ هل نحن مهمّون، كذات قومية تاريخية وجيوسياسية، كما تعلمنا في التاريخ؟ أم نحنُ ضئيلون، سهلو القياد، ضعيفو العقل والشخصية ومناسبون للخدمة والجلوس عند الباب؟
 
لو كنا غير مهمين وسهلي القياد –كشعوب- لما تطلب الأمر كل هذه الدموية والكُلف لترويضنا. وعلى الرغم مما بدا دائمًا وأنه المعركة الأخيرة لجعل منطقتنا طيعة وجاهزة للنهب والاستلاب النهائيين، كان الآخرون دائمًا غير مطمئنّين. وهم محقّون لأنه على الرغم من التنازلات، لم تتطبع الشعوب العربية مع الهزيمة والتبعية النهائية؛ الإمكانية دائمًا هناك.
لماذا العرب خطِرون من حيث إقلاق ميزان القوى والحصص العالمية؟ لأن إمكاناتهم الجماعية تجعلهم، في حال تحققها، مرشحًا فوق العادة لإخراج إقليمهم من مفعول به مستباح إلى فاعل يُحسب له حساب: الجغرافيا، السكان، اللغة، الدين، التاريخ المشترك، الثروات الطبيعية، والموقع الاستراتيجي -كلها عناصر تجعل من وحدة العرب كابوسًا حقيقيًا للمنافسين الإقليميين، والمتنافسين العالميين على الهيمنة –وبالتأكيد الولايات المتحدة. سوف يترتب على كل هؤلاء التعامل مع تغيير زلزالي مع عالم وفد فيه فاعل جديد يسيطر ربما على أهم منطقة في الكوكب إلى الطاولة، بعد أن كان تابعًا مسلمًا به لعقود.
يمتدّ إقليم العرب من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ويضم نحو 470 مليون نسمة، يتحدثون لغة واحدة، ويشتركون في تاريخ طويل وثقافة عميقة. (مجموع سكان "الاتحاد الأوروبي" نحو 448 مليون نسمة غير متجانسين عرقيٍا ولغويا؛ والولايات المتحدة نحو 335 نسمة من أصول مختلفة).  ويربط إقليم العرب بين ثلاث قارات، ويتحكم في أهم المعابر المائية في العالم: قناة السويس، مضيق هرمز، باب المندب. وتحته ثروات هائلة مهمة: النفط والغاز والمعادن. ويملك أرضًا خصبة وشعوبًا شابة. (انظروا فقط حجم الاضطراب الذي أحدثه الحوثيون، بإمكانياتهم الضعيفة، بالتجارة العالمية لدى استغلال تحكمهم بمضيق باب المندب –كيف جاءت أميركا وحلفاؤها بأساطيلهم، ولم يحققوا شيئًا إلا باتفاق).
إذا تمكن العرب من تشكيل تكتل معقول، فسوف يحجز بالتأكيد مقعدًا على مائدة الكبار في النظام الدولي. اقتصاديًا، يمكن للعرب أن يشكلوا سوقًا ضخمة موحدة وقوة طاقة عظمى تسيطر على جزء مهم من الإنتاج العالمي للنفط والغاز، وتعيد صياغة شروط التجارة العالمية وفق مصالح العرب. سياسيًا، يمكن للعرب أن يشكلوا تكتلًا مستقلًا مؤثرًا قادرًا على إحداث فرق في قضايا العالم، خاصة في الجنوب العالمي، ويعيد التوازن إلى النظام الدولي المختل. عسكريًا، لو تم تجميع القدرات الدفاعية للدول العربية، بما لديها من جيوش وتجهيزات وموازنات ضخمة، لأصبح العرب قوة ردع وازنة قادرة على الدفاع عن مصالحها، وجعل الطامعين يفكرون مرات قبل الاجتراء على العدوان. ثقافيًا، تمتلك الأمة العربية من الإرث الفكري والديني والفني والحضاري ما يجعلها مصدر إشعاع عالمي، خاصة إذا تم إطلاق الطاقات والعقول وتوظيفها في خدمة مشروع نهوض شامل واعتماد الهوية المتجانسة التي تجمع الأصالة بالمعاصرة.
في ظل الحرب الإمبريالية التي تشنها الولايات المتحدة على العالم العربي، بأدوات مباشرة وأخرى بالوكالة، يؤديها الكيان الصهيوني في فلسطين والنخب المحلية التابعة، تعيش كل دولة عربية، بشكل منفرد، حالة حرب مستمرة، مهما بدت ظاهريًا مستقرة. ثمة الحصارات، والتدخلات، وزعزعة الاستقرار، وإشعال الفتن الطائفية والسياسية والعبث بالهويات الفرعية، كلها أشكال من الحروب غير المعلنة التي تستهدف كل دولة على حدة، وتمنعها من تحقيق سيادتها الكاملة أو تنميتها المستقلة. ولنلاحظ عدد الدول العربية التي بدت مستقرة، ثم تم تفجيرها من الداخل أو غزوها وتدمير مقدراتها بجرة قلم. ومن حالة القلق السائدة في كل قطر عربي بلا استثناء، يبدو كما لو أن هناك قنبلة موقوتة مُعدة للتفجير في أي وقت، بتفعيل برمجيات وعوامل تفجير بشرية مجهزة سلفًا. ولم يخجل ترامب من إعلان أنه يمكن أن يقوض أي نظام في منطقتنا متى ما أرادت أميركا ذلك.
هذا الإضعاف الممنهج لكل عضو وجهاز حيوي في الجسد العربي يضعفه كله، ويُقعده عن النهوض ككيان متماسك، بعقل وجهاز عصبي ومشروع موحد. إنه لن ينهض بسبب ضعف الإرادة السياسية، والإنهاك من الهجوم التخريبي الذي يُستخدم فيه الكيان الصهيوني كقوة وظيفية، تديم وهنه بخلق الأزمات، واستهداف أي بؤرة مقاومة للقضاء على أي أمل أو نموذج –وربما الأهم، توسيع القطع الأفقي بين الشعوب والأنظمة.
كانت الحصيلة حتى الآن لهذه الحرب الأميركية-الصهيونية الطويلة على الشعوب، كما أظهرت بيانات "الباروميتر العربي"، هي مراوحة الآراء الإيجابية تجاه الولايات المتحدة بين 10 في المائة في تونس و31 في المائة في موريتانيا. رسوب واضح. وحسب "الجيروساليم بوست" تشير الاستطلاعات إلى رفض شعبي عربي واسع للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وحسب الصحيفة، في استطلاع شمل 16 دولة عربية، عبّر 89 في المائة من المستجيبين عن معارضتهم المطلقة للاعتراف بالكيان. وعلى سبيل المثال، تراجعت نسبة تأييد التطبيع في المغرب من 31 في المائة قبل حرب غزة إلى 13 في المائة مؤخرًا.
ما يعنيه ذلك هو أن حرب الولايات المتحدة على العرب –وبالتأكيد فكرة بايدن: "لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا أن نخترع إسرائيل"- ضمنت فقط تعزيز "الإمكانية" العربية والكراهية الشديدة للهيمنة الأميركية وأدواتها في المنطقة، وعدم رضا الشعوب المطلق عن المكان الذي تُوضع فيه. إنها حرب استرقاق، فاشلة بوضوح لأنها غير أخلاقية ولا عادلة. إنها فقط مسألة وقت، وظروف.