الغد
ركزت القيادة الأردنية قبيل زيارة واشنطن على عدم خوض أي مواجهة علنية مع الرئيس ترامب، وأكد ذلك امتناع وسائل الإعلام الأردنية الرسمية عن توجيه أي انتقادات مباشرة لشخص الرئيس ترامب، حرصاً على عدم تفسير أي نقد بأنه حملة موجهة من قبل الحكومة، في المقابل يبدو أن الشرط الأردني كان بحجب اللقاء عن الاعلام، لكن فوجئ الجميع بإقحامه إلى المكتب البيضاوي ليكون شريكاً في اللقاء وهو ما أغضب الملك، وربما مرد جزء كبير من هذا الغضب ينصب على الجهات الأردنية المشاركة في التنظيم والتي لم تؤكد بما يكفي على الجهات الأميركية بضرورة عدم وجود الصحافة، والتي لم تقرأ سلوك ترامب بعمق وحرفية.
أدرك الملك أن ثمة مصيدة نُصبت لاستدراجه للانفعال لانتزاع تصريحات يستخدما ترامب لتأكيد مقولاته حول غزة وهو البارع في ممارسة البلطجة الإعلامية على ضيوفه، وأهم ما كان يريده ترامب هو إخضاع الملك لضغوطات متعددة، أولها كان التلويح بإيقاف المساعدات قبل بدء الزيارة، ولاحقاً الإعلام كوسيلة ضغط وابتزاز، لكن المدهش هو التكتيكات التي استخدمها الملك عبدالله وأول مظاهره هو رباطة الجأش والتي ظهرت بشكل جلي بعدم الانسياق وراء خطة ترامب بفتح مناكفة إعلامية يبرع بها ترامب كثيراً، وثانيها الاقتضاب الشديد في الردود والإصرار على أن أميركا شريك مهم، لكن الأهم كان امتصاص اندفاع ترامب وتحويل مسار النقاش من غزة إلى الشأن الأردني، والتركيز على ما يخدم مصلحة الأردنيين في محاولة لتوجيه جدول الأعمال على المصالح الأردنية والتي لا يخدمها مزيد من اللاجئين، النقطة الثانية هي إشعار ترامب ببعض الانتصار عندما طرح الملك موضوع علاج الأطفال الفلسطينيين، مع ان هذه في الأصل في صلب الرسالة الإنسانية التي يوجّهها الأردن لسكان غزة منذ بدء العدوان وهي رسالة أصيلة للأردن وفي جوهر أخلاقه، وربما كان في الرقم إشارة إلى ان هذا هو أقصى ما يمكن للأردن تقبله من سكان غزة.
حاول ترامب القفز عن هذه النقطة وعاد مجدداً للحديث عن ترحيل سكان القطاع ، لكن كان جواب الملك كان شديد الوضوح بأن هذه ليست قضية الأردن وحده، بل في عهدة الدول العربية بقيادة مصر والمملكة العربية السعودية، وهؤلاء بالتعاون معنا يعدون خطة سنوافيكم بها عند إتمامها، هنا بدأت علامات الارتباك على ترامب، لكنه عاد للاحتفال بما قاله الملك حول الـ2000 حالة، واعتبر أن هذه خطوة عظيمة، تمكن الملك من إدارة الموقف بما يخدم رؤيته دون الدخول في مهاترة غير مجدية مع ترامب، لكن الملفت هو الهجمة الإعلامية غير البريئة التي انطلقت بعد اللقاء طالت الأردن والملك وأدخلته في مسار من باع غزة والعرب، تماماً مثل التي حصلت بعد هزيمة العام 1948 والتي حُمّل الأردن تبعاتها في عبث لا يحترم الحقائق ولا ميزان القوى، ويبدو ان نفس السيناريو يراد تكراره الآن بأن يُحمل بلد تعود أن يُنكر ذاته وتضحياته، مما شكل مدخلاً للآخرين لاستثمار هذا الوقار الأخلاقي لصالح أجنداتهم الضيقة.
ما يثبت عدم براءة هذه الحملة هو سرعتها وحرفيتها ووسائل التزييف والتشويه التي استُخدمت فيها، وهذا يؤكد ان ثمة مشروع يهدف إلى زعزعة الاستقرار في البلد لتنفيذ أجندات تخدم اسرائيل والتي باتت على قناعة كاملة بأن استقرار الأردن لا يخدم مصالحها، وبالتالي فإن الفوضى فيه باتت مطلباً استراتيجياً لها، وهي في سبيل ذلك لن تعدم الأدوات المحلية أو العربية سواء عن حسن أو سوء نية، لكن ما حصل كان مذهلاً، أولها تمكُن الملك من نسج علاقة جيدة مع ترامب وهذا ما يظهره فيديو مسجل أكد فيه ترامب احترامه للملك عبدالله والأردن، ثانياً تجنب قطع المساعدات عن الأردن، وايضاً استطاع شراء الوقت لصالح مبادرة عربية لإعادة إعمار غزة، والأهم من كل ذلك هو أن العالم اكتشف ذكاء الشعب الأردني وصرامته في المواقف الصعبة.
لقد أدرك الشعب الأردني بذكائه الفطريّ، أن ما حصل ليس عبثاً إعلامياً قام به هواة أو مبتدئون، بل خطة ممنهجة للنيل من الملك كرمز للدولة ومعبراً عن سيادتها يستهدفه ويستهدف الدولة في آن معاً، وهو ما حرك الحمية في الأردنيين ليثبتوا ان القواعد التي تحمي الدولة والملك راسخة وقوامها شعب لا يمكن خديعته بسهولة، وهو مُصّر على الاستقرار وبالتالي الملكية والملك، وهو ما عبر عنه في لحظة اعتقد الكثيرون ان محاولة النيل من شخص الملك ستشكل نقطة انطلاق لحركات مناهضة للحكم، لكن ما حصل تماماً هو عكس هذا، بالتالي سمحت كل تلك الظروف للملك من تحويل ما أراده الآخرون نقطة ضعف، إلى نقاط قوة أعطت الملك كقائد سياسي دفعة سياسية قوية ليس فقط على مستوى الأردن بل على مستوى الإقليم والعالم.