الغد
اليوم هو الثاني من عمر اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ذلك الاتفاق الذي تأخر طويلا بسبب رفض إسرائيل جميع المبادرات الرامية إلى وقف حرب الإبادة التي شنتها على أهل القطاع من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، حتى انهد البنيان، واحترق البشر والشجر، وأبيدت عائلات بأكملها في أبشع مجزرة شهدها تاريخنا المعاصر، وقد عصفت تلك الحرب بالمنطقة كلها، وأحدثت تغييرات ستظل تتفاعل إلى أمد غير معلوم.
لم تظهر بعد الفرصة التي نحتاجها لالتقاط الأنفاس، ولا ندري أي مفاجآت تنتظر مراحل تنفيذ الاتفاق المبني أساسا على مبدأ الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين، فالاتفاق لا ينهي الحرب وإن كان يوقفها على شكل هدنة أو عدة هدن، ما لم يتبع هذا التطور خطوات عاجلة وصارمة، وبجهود عربية ودولية فاعلة ومؤثرة لتثبيت حالة وقف إطلاق النار وايجاد أفق لعملية سياسية إدارية تسمح لأهل غزة بإعادة بناء ما هدمته الحرب واستئناف حياتهم بكل ما فيها من مآس لا يمحوها الزمن.
المراجعة ستفرض نفسها على الجميع أمام هول ما جرى، وأمام ظهور عناصر معقدة في هذا الصراع الذي تتصدره القوى الدينية اليمينية الإسرائيلية، وأمام مخططات الضم والتهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية، والأحاديث عن النبوءات التوراتية، وغير ذلك مما يدفع نحو مرحلة يصعب وصفها بدقة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ومن النزاعات اللصيقة به في هذا الإقليم الملتهب من العالم.
يهمنا نحن في الأردن أن نرى جميع الأطراف المشتبكة عسكريا وهي تجري مراجعة للموقف كل من جوانبه، وبالطبع يهمنا كثيرا أن تكون المراجعة على المستوى الفلسطيني والعربي موضوعية وحاسمة من أجل معرفة ماذا سيترتب على مرحلة ما بعد الحرب من تطورات وربما أحداث يفرضها الواقع الراهن وفقا للسياسة التي سيتبعها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في المنطقة، ولا شك أن الجميع سيتذكرون المواقف التي عبر عنها جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين قبل وأثناء الحرب على غزة إذا كانت هناك فرصة لعملية سلام تقوم على قرارات الشرعية الدولية، وخاصة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف.
قد يقول قائل إن هذا الحل بات مستحيلا، وقد يكون الرد في المقابل (حسنا، فالسلام سيكون مستحيلا كذلك، ولن تنعم المنطقة به في يوم من الأيام) ، وسبق لجلالة الملك أن خاطب قادة العالم من على منبر الأمم المتحدة مؤكدا تلك النظرية ومحملا الشرعية الدولية مسؤولية تنفيذ قراراتها، ومحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإلا فإن شريعة الغاب ستهدد العالم بأسره.
في نطاق تلك المراجعة التي ستفرض نفسها مهما حاول البعض التهرب منها سيعرف الجميع أن الأردن ظل وما يزال يمثل ضمير تلك المعادلة التي تقوم على مناصرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتحقيق سلام يشمل المنطقة بأكملها، والتي تجعل منه في مرتبة أعلى من أن تكون مواقفه محل مراجعة، إلا إذا أراد المنصفون تذكر ما فعله من خلال دبلوماسية خشنة لحشد موقف دولي فاعل ضد الممارسات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وتقديم المساعدات الإنسانية التي قاد قوافلها من أول يوم وإلى ما شاء الله له أن يجاهد وأن يفعل.