الجزيرة - منذ الأيام الأولى لبدء التظاهرات الشعبية في لبنان، حذرت أحزاب السلطة من استفادة قوى وأطراف للحراك، واستغلاله لتحقيق مصالحها التي لا علاقة لها بأهداف ومصالح الغاضبين الثائرين المخلصين الشرفاء الفقراء الموجوعين. هذا الاتهام شكل ذريعة لأحزاب السلطة كي توعز لبلطجيتها وزعرانها ومناصريها للاعتداء على المتظاهرين وشتمهم وإحراق خيمهم، بذريعة أن المتظاهرين متآمرون مندسون يستغلون أوجاع الناس لتحقيق مآرب أخرى.
حتماً ويقيناً هناك أطراف "ركبت موجة" التظاهرات الغاضبة في الشارع وتسعى لتحقيق مصالحها، قد تكون أطراف داخلية متضررة من السلطة القائمة وتريد قلب الطاولة لإيجاد مكان لها، وقد تكون أطراف خارجية تنفّذ أجندات تتعلق بها، لكن حتماً ويقيناً أن ركوب موجة التظاهرات الشعبية ليست اختراعاً حديثاً، كما أنه ليس محصوراً بلبنان، فمن المعروف أن كل حراك يشهده الشارع، ستسعى أطراف أخرى لاستغلاله وتحقيق مكاسب لا علاقة لها بمطالب الشارع.
التظاهرات التي خرجت قبل خمسة وأربعين يوماً بدأها المواطن المسكين المقهور الفقير، الذي استاء من الأزمات الكثيرة والمتلاحقة التي يرزح تحتها، وبسبب المكابرة والغباء الذي اتسم به أداء السلطة تجاه هذه الأزمات
ألم يستفد تيار المستقبل من التظاهرات الشعبية الغاضبة التي خرجت عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 ليحقق انتصاراً ساحقاً في الانتخابات النيابية التي جرت بعد الجريمة بأشهر؟ ألم يستفد التيار الوطني الحر من التظاهرات الحاشدة في 14 آذار/مارس 2005 التي أدت لانسحاب الجيش السوري من لبنان، ومهدت الطريق لعودة رئيس التيار ميشال عون بعد قرابة 15 عاماً من النفي؟ ألم تستفد القوات اللبنانية من الجو الشعبي الضاغط والمؤيد للإفراج عن قائدها سمير جعجع رغم إدانته بحكم قضائي؟ ألم يستفيدوا جميعاً من حراك الشارع في محطات سابقة لتحقيق مصالحهم، فلماذا يستغربون اليوم ركوب أطراف أخرى لهذا الحراك واستغلاله؟!
فمن المنطقي أن تسعى القوات اللبنانية اليوم للاستفادة من التظاهرات الشعبية للإطاحة بالمنظومة السياسية القائمة التي عملت على إبعادها وتهميشها وإقصائها، رغم الحصة الكبيرة التي حققتها في الانتخابات النيابية الأخيرة. ومن المنطقي أن يسعى سعد الحريري -رغم أنه كان يشغل رأس السلطة التنفيذية- لاستغلال الحراك الشعبي لتحرير نفسه من التسوية الرئاسية والقيود التي كبّلته وجعلته الطرف الأضعف في حكومة يرأسها. ومن الطبيعي أن يسعى أحد المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية لاستخدام كل ما يملك من أدوات لتأجيج الشارع وتجييشه وتوجيهه للإطاحة بمرشح يسابقه للوصول إلى قصر بعبدا. كما أنه من الوارد كذلك أن تستغلّ جهات خارجية التظاهرات في الشارع فدعمتها ورعتها بهدف التضييق على قوى وأحزاب تعتبرها خصوماً وأعداء لها. كل هذا قد يكون صحيحاً وهو منطقي وطبيعي ويحصل في كل دول العالم، لكنه لا يبرر مطلقاً اتهام جميع المتظاهرين بتنفيذ أجندات خاصة بهم والتشكيك بنواياهم وتخوينهم والاعتداء عليهم وإعلان الحرب المقدسة عليهم لتشتيتهم.
فالتظاهرات التي خرجت قبل خمسة وأربعين يوماً بدأها المواطن المسكين المقهور الفقير، الذي استاء من الأزمات الكثيرة والمتلاحقة التي يرزح تحتها، وبسبب المكابرة والغباء الذي اتسم به أداء السلطة تجاه هذه الأزمات، واستمرارها في مسارها الانحداري الذي زاد من حدة الأزمة واستفحالها، وبسبب انكشاف عشرات ملفات الفساد التي ثبت ضلوع بعض من في السلطة فيها دون أن تتحرك أي جهة رقابية لمحاسبة الفاعلين، وبسبب تحيّز السلطة القضائية التي تختار من تشاء لتدّعي عليه وتوقفه وتعتقله وتترك من تشاء خدمة لمآرب الجهات التي تواليها، وبسبب الاستياء الكبير الذي شعرت به شريحة واسعة من اللبنانيين جراء أفكار وهواجس طائفية بغيضة لازمت بعض من في السلطة، وبسبب خطاب عنصري ومذهبي استفزازي ونكئ لجراح الحرب انتهجه بعض من في السلطة. لكل هذه الأسباب وغيرها نزل اللبنانيون إلى الشارع، أما من "ركب الموجة" واستفاد منها فمشكلة السلطة أن تواجهه لا أن تواجه المواطن الموجوع والمقهور.