الدستور
رغم ما قيل في وما أتهم به العهد السابق، وبقطع النظر عن اختلافي معه، كما يختلف معه عدد كبير من التونسيين، إلا أن ما يحسب له وللرئيس بن علي شخصيا، هو قوته في اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب.
فالكل يعرف أن بن علي وليد المؤسسة العسكرية وحتى مستواه التعليمي ليس كبيرا ولم يكن يوما سياسيا عكس سلفه الحبيب بورقيبة الذي كان محاميا وزعيما و سياسيا محنّكا.
وكان بن علي يدرك ذلك جيدا، ويقدّر نفسه حقّ قدرها، لذك أحاط نفسه بفريق مستشارين من أعلى مستوى في السياسة و الاقتصاد وفي الدبلوماسية و الأمن. كما قام بتعيين وزراء أول من الخبراء الضالعين في ادارة شؤون الحكم على غرار الهادي البكوش وحامد القروي و محمد الغنوشي.
وعلى منهجه سار الوزراء بتعيين مديرين عامين وكبار الموظفين من الكفاءات بقطع النظر عن الانتماءات والولاءات. وكلنا يتذكر تعيين بن علي لمحمد الشرفي اليساري الشرس والمعارض لبن علي، في وزارة التربية ووزارة التعليم العالي بين 1989 و1994.
هذه السياسة أنتجت لنا حكومة من الكفاءات و ادارة قوية تعمل دون كلل و لا اضرابات وهي التي منعت سقوط البلد بعد 14 كانون الثاني حيث بقيت كل المرافق تشتغل بنسقها العادي وهو ما أبهر العالم حقيقة.
لكن هذه السياسة فجّرتها النهضة منذ توليها الحكم في 2012 حيث بات المنصب مرادفا للولاء و للجماعة بقطع النظر عن الكفاءة.
بل انها تعمدت استبعاد كل الكفاءات، والبداية كانت بتعيين رئيسي حكومة على التوالي، لا كفاءة لهما، و لم يمارسا الحكم و لا الإدارة أيضا وهما حمادي الجبالي وعلي العريض، وكذلك اغلب الوزراء في الحكومة، بما فيهم رئيس الدولة حينها، المنصف المرزوقي، الذي عرف بنضاله الحقوقي و لم يمارس الوظيفة والادارة .
وتبقى الجريمة الكبرى التي ارتكبتها النهضة، وهي الانتدابات العشوائية لأنصارها، وأنصار أنصارها في الوظيفة العمومية، التي يقال أنها بلغت 300 الف وظيفة. و الجرم الأكبر أن عددا منهم أحتسب له السلّم الوظيفي لسنوات قضاها في السجن، فخرج من الوظيفة موظفا، ليعود مديرا عاما، فاختلط الحابل بالنابل و تم استبعاد الاكفاء بحجة الانتماء للتجمّع، فمسك الادارة بمختلف مفاصلها جيل من المتخلفين عن العصر لا يفقهون شيئا عن الادارة وهذا ما أثّر على الاقتصاد و المجتمع و السياسة، علاوة على آلاف الإضرابات العشوائية، وهو ما أدخل كل المؤسسات العمومية في أزمة غير مسبوقة بعدما كانت قبل 2011 ممولا للميزانية العمومية.
المحسوبية و الولاء و عدم الكفاءة، أنتجا سرطانا من الفساد، أوصل البلد إلى حالة الإفلاس الأخلاقي والاقتصادي و القيمي، ما جعل الشعب يثور مجددا يوم 25 تموز، و يطالب بطرد المنظومة الفاسدة، وهو ما يفسّر الترحاب الكبير بقرارات الرئيس سعيد، التي أنهتها، لاعتقاد الكثيرين أن عهد المحسوبية و الولاء انتهى و أن الرئيس سعيد شخص مختلف لا يقوم بتعيين المقربين منه. وفعلا هذا ما فعله بأصدقائه ومناصريه من الأحزاب، حيث أغلق الباب في وجوههم، بل أعرض عن مقابلتهم ومشورتهم، لكن في المقابل، قام بتقريب عدد كبير من أعضاء حملته التفسيرية، وقام بتعيين عدد منهم ولاة و معتمدين، وفي مناصب حساسة، معللا ذلك ببحثه عن الوطنيين الصادقين قبل الكفاءة، و كأن الكفاءة و الوطنية لا يجتمعان.
و الحال أن جل من عينهم السيد الرئيس لا كفاءة لهم ولادراية في التسيير و الحكم .
و الخطير وفق ملاحظين، أن هذه السياسة الجديدة في التعيينات، خاصة في المناصب العليا، لم تعد تراعي التدرّج الوظيفي، و لا الخبرة في الادارة، بل تعتمد على شرط غريب هو الوطنية. ونحن نعرف أن هذا المفهوم هلامي حيث لا محددات له، و لا يمكن احتكاره من قبل شخص، مهما كانت وطنيته، وحده يوزّع صكوك الوطنية ويحجبها . وهذا ما سارع في تقسيم التونسيين مع الأسف حيث الوطنيون هم من يختارهم الرئيس و يناصرونه والبقية خونة و متآمرون.
ان ثقة كثير من التونسيين و مكونات المجتمع المدني لاتزال قوية في الرئيس سعيد، الذي تدرّج بدوره في السلم التدريسي، حتى وصل استاذا جامعيا مساعدا، و منعته ظروف قاهرة، شبيهة بتلك التي كنا نتحدث، من اتمام رسالته في الدكتوراة، ليتراجع عن هذه السياسة في التعيينات، و يعدّل مفهومه حول الوطنية و الحوار.
اننا نجد أنفسنا مجددا نعيش في فوضى التعيينات، مرة بحجة الولاء ومرة بحجة الوطنية، لكننا لم ندرك أن بلادنا سقطت حينما تم اسقاط ادراتها، و لن تتعافى مجددا الا بتخليصها من الموالين، و الرجوع إلى معيار الكفاءة أولا و أخيرا.