عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Sep-2025

النسخة الأردنية في قصة الحضارة| سامح المحاريق

عمون-

 

في واحدة من رسائله يكتب عبد الحكيم قاسم:"وفي الحق أن محمدًا ليس بدويًا مكيًا ولكنه مثقف شامي قضى عشرين عامًا يتردد على الشام ويسمع من مثقفيه، ويناقش رهبانه وقسيسية"
 
قبل أن تستفزك العبارة، عليك أن تنتبه أن الرواية الدينية يجب أن تتوافق مع المقدمات الموضوعية، فالأسباب مهمة وهي التي جعلت الإسلام متقدمًا كبنية فكرية وعملية، والحقيقة أن النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – كان مختلفًا عن قريش، ومتقدمًا عليها حتى في المرحلة التي سبقت الوحي السماوي،
 
وقريش نفسها كانت متقدمة على العرب، تنظيميًا وأخلاقيًا إلى حد بعيد، والسبب أيضًا مرتبط بمنطقة كانت تقع شمالًا، تقريبًا في الأردن الذي نعرفه اليوم، حيث نشأ قصي بن كلاب غريبًا عن مكة، وعندما عاد لها واجهته صعوبات كثيرة، فانطلق أخوه غير الشقيق رزاح (أو رازح) ابن ربيعة لينجده، وهو قضاعي، وغالبًا ولمركزية دمشق في الإمبراطورية البيزنطية، فالقبائل القضاعية وطرق التجارة ارتبطت بالأردن بصورة تجعل من الضروري الالتفات لطبيعة الثقافة السائدة في المنطقة، والتي أعتقد أنها ما زالت مؤثرة وعميقًا لأسباب مرتبطة بالطبيعة والجغرافيا وطبيعة الحلول الاجتماعية التي تنبني على أساسها.
 
تعامل النبي لسنوات طويلة مع سكان المنطقة التي تقع جنوب دمشق وشمال وادي القرى، وعقدتها المركزية الأردن الذي نعرفه اليوم، ويبدو أنه كان أكثر ميلًا في طباعه وتصرفاته لأهل هذه المنطقة، وقريش بشكل عام إعادة إنتاج لتقاليد أنتجها الجد البعيد قصي بن كلاب، ولذلك كان النفور الطبيعي من ممارسات كثيرة اصطحبتها القبائل القادمة من أعماق الصحراء لمكة، وكان المكيون مضطرين للتعامل معها لتأمين طرق التجارة من اليمن إلى الشام.
 
الشام التي يتحدث عنها قاسم إجمالية وعامة، والحقيقة أن الأدق هو الجزء من الشام الذي تشكل الأردن زخم تمثله أو عقدته المركزية كما ذكرت.
 
عندما يتحدث الكاتب الكبير حسين مؤنس عن تاريخ قريش يسهب في صفحات كثيرة عن استئناس الجمل والحصان، وكيفية دخول العرب المستعربة إلى الجزيرة العربية، والمدخل الذي أزعجني سابقًا أراه مناسبًا جدًا لتفهم تكون المجتمعات في علاقتها مع الطبيعة، وفي فرز الشخصية لمجتمع ما بناء على ذلك، فالأردن أخذ يستقل في التصورات العامة مع ظهور الإسلام، فالعرب أصبحوا يمتلكون دولة تستطيع أن تنتج أقاليمها الخاصة، وأن تطلق عليها التسميات، وأن تفرض ثقافة قائمة على القوانين والأعراف السائدة، والأردن كان مؤثرًا في الصياغة لأنه المرحلة الانتقالية بين البداوة في أقصى تجلياتها مع مداخله على الصحراء الصعبة والشرسة، ومفاتيحه لأقصى درجات التحضر تمثلًا في العصور القديمة مع الإمبراطورية الرومانية.
 
نشرت اليوم ردًا على الدكتور أحمد عويدي العبادي وحديثه عن القبائل الأردنية الثمودية، وعدا عن هشاشة الفرضيات التاريخية التي تعود إلى اثني عشر ألف سنة، فإنني لا أرى اتصالًا بين الأخلاقيات الثمودية وما نعرفه عن الأردن اليوم، ولا أرى أن الفزع الهوياتي يجب أن يدفعنا إلى هذه الأقاصي التاريخية، وكأننا نقلد المصريين في نزعتهم الكيميتية وفرعونياتهم، أو اللبنانيين والهوس الفينيقي.
 
وكان من بين الردود الجديرة بالاهتمام ما قدمه الصديق حسين جلعاد، وكان يتحدث عن التراكم التاريخ، وهو صحيح، ولكنه لم يعد مؤثرًا في بنية المجتمع الأردني، فالأردن كان دائمًا في منطقة تتصف بالسيولة والحيوية التاريخية، فنحن لا نتحدث عن قبائل مرتحلة في نطاق جغرافي داخل الصحراء الكبرى، أو سكان جزيرة نائية في أقيوناسيا.
 
نحن نتحدث عن بلد كان يشكل قاعدة الانطلاق والتعبئة تاريخيًا لمجموعة من أهم الأحداث التي صاغت التاريخ العالمي، فالأردن كان المحطة الأولى في مؤتة، وفزعت الإمبراطورية البيزنطية فتقدمت جيوشها إلى تبوك لتكون المعركة الثانية، بمعنى أن الأردن أصبحت قاعدة الانطلاق للفتوحات وخاصة إلى شمال افريقيا، وحدثت عمليات تبادلات سكانية واسعة، فأثر أهل المنطقة ثقافيًا وتأثروا بالتفاعلات الكبيرة، وبعد ذلك، كانت الحروب الفرنجية (الصليبية)، فكان الصراع على قلعة الكرك المنطلق الأساسي لتحرير القدس ومحاولة دحر نهائية للأوروبيين من المنطقة، وأتت بعد ذلك حملة نابليون، وهبة واسعة من قبائل شرق الأردن أنتجت مجموعة من كبريات العائلات الفلاحية في فلسطين بعد بقائها في اقطاعات قدمها أحمد باشا الجزار للمقاتلين الذين قدموا من البلقاء والكرك والسلط ومادبا والشوبك (عائلات جرار وعبد الهادي وغيرها)، وأخيرًا حملات إبراهيم باشا وردود الفعل العثمانية التي ترافقت مع العبث في التكوينات السكانية ورفض جيل من الأردنيين لذلك ليكونوا في مقدمة الثائرين في الكرك 1910.
 
لا يحتاج الأردن لثمود أو غيرها ليؤكد هويته، ولا حتى الأنباط الذين كانوا ظاهرة عابرة للجغرافيا وممتدة، ولا يعني وجود عاصمتهم في البتراء أنهم كانوا يمثلون ما هو أكثر من جزء من تراكمات أوسع وأكثر عمقًا وثراءً.
 
الأردن قصة يتم تشويهها داخل الفزع الهوياتي، والقصة برأيي ترتبط بقصة أخلاقية كبيرة يمكن أن تراها عندما تحط في مطار الملكة علياء لتجد شعبًا مهذبًا ومتعاونًا ولو كان بشيء من الإرهاق والتعب الذي وضعه في مفترق طرقات الصراعات الكبرى في التاريخ، قصة تجعل المسيحيين يسمون أبناءهم عمر وزيد لأنهم شركاء في تشكيل الشخصية الأخلاقية لهذه البلد، وهو الأمر المستبعد في دول تدعي عمقًا حضاريًا أعمق وأبعد في تشكلاته المادية.
 
الترابط بين نسخة الأردن العربي والإسلامي بخصوصيتها وبين واقعه اليوم هو الذي يستحق الدراسة، فالأردن ليس مكانًا جغرافيًا، وما الذي يعنيه العودة إلى التواريخ السحيقة، ألا يفترض أن نصبح جميعًا أثيوبيين أو من مكان تجاه الجنوب في افريقيا لو بقينا في هذه السلسلة غير المنتهية من المزاعم ومن البحث عن الجذور.
 
صراحةً، أرفض أن نربط بلادنا الجميلة والعظيمة بقبيلة وصفها القرآن الكريم بالطغيان ورفض سلوكياتها وأخلاقياتها، قبيلة لم تستطع أن تترك وراءها سوى اسم غامض في مرحلة غامضة من التاريخ، بينما لدينا صفحات كثيرة وخصبة من التاريخ الذي لم ندرسه وتجاهلناه مع أننا أخذنا نبني على أساسه التصورات الجمعية والنتائج العملية.
 
الأفضل أن ندرس الأردن بوصفه ظاهرة تستحق الدراسة بعد نضج مكونه الأخلاقي الذي نمتلكه من أوراق ووثائق، ومن شعب تمكن مع الإسلام من حسم هويته التائهة التي بقيت على أرضية الصراع بين الرومان وقبلهم الإغريق من الشمال والغرب، والفرس القادمين من آسيا، وقبلهم نزوات الفراعنة الارتيابية للإخضاع وتأمين حدودهم من الحيثيين القادمين من الشمال.
 
بدأ الأردن بهذه الهوية التي سبقت ظهور الإسلام ببضعة قرون، وكانت أول حليف للمشروع العربي الذي كانت أرض الأردن أول إطلالة لوجوده في ساحة التاريخ والحضارة.
 
الأردن في هذه النسخة مختلف عن سوريا المتسعة وتفاعلاتها وطقوسها المتعددة، وعن فلسطين المنفتحة على البحر، وعن الجزيرة العربية المفرطة في الصحراء، يشبه هذه البلاد ولا يشبهها بنفس القدر، علاقة من التأثير والتأثر، ولكن في النهاية ثمة شخصية يجب أن تدرس بناء على موقعه وطبيعته ورؤيته للعالم وتهديداته وفرصه.
 
لا نحتاج لأن نخترع تاريخًا أبعد من وجودنا الذي سجلته كتابتنا وضميرنا الجمعي، كما أن أوراق التاريخ لم تعد ذات طائل، بينما يوجد ما يمكن أن نقدمه للحاضر والمستقبل معًا.