عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Jun-2025

أحلام غزة تتنفس من جرش| د. موسى برهومة
عمون
 
يتعدى السجال في الأردن حول مهرجان جرش، النطاق الفني والثقافي للمهرجان الذي يطفئ هذا الصيف شمعته التاسعة والثلاثين، ويضع هذا الحدثَ السنوي في قلب السياسة، لاسيما في ظل المشكلات المشتعلة في المنطقة، وفي غزة تحديداً التي تشهد على "هولوكست" يذيب الصخر والعظام ويمزق شغاف الأفئدة.
 
ومنذ "طوفان الأقصى" والجدل حول انعقاد المهرجان محتدم، إذ تبرز انقسامات شبه عامودية بين من يؤيد استمراريته رغم المآسي من حولنا، ومن يعارض توقف المهرجان على اعتبار أنّ التضامن مع غزة يكون بالفن أيضاً.
 
الموقفان يصدران عن مرجعيات فكرية (أيديولوجية) وأخلاقية. ويمكن أن يلمس المراقب أنّ المؤيدين لتعطيل المهرجان ينتسبون، في جلّهم، إلى ما يعرف بتيار "الإسلام السياسي"، وبعض المحافظين (اجتماعياً) المتأثرين بأدبيات هذا التيار ممن كانوا يعارضون انعقاد المهرجان قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بذريعة أنّ المهرجان يشجع على "الاختلاط والعري والخلاعة والفن الهابط، ويتنافى مع ضوابط المجتمع وأعرافه وقيمه" إلى آخر هذه المعزوفة المثقوبة التي تعتصم بالتأويل الديني (الانتقائي) من أجل شيطنة أي فعل له صلة بالإبداع والترفيه والانفتاح.
 
الفن سلاح
 
أما التيار الذي يؤيد انعقاد المهرجان في موعده، فجلّه من الليبراليين ونشطاء المجتمع المدني والكتّاب والمثقفين، ممن يؤمنون أنّ الفن سلاح، وأنّ ما لا تحققه السياسة يتولاه الإبداع، وأنّ المهرجان يستطيع أن "يسوّق" مأساة غزة بطريقة خلاقة تخترق الوجدان العالمي. كما يحرص هذا التيار على تأكيد أنّ الآلام لا ينبغي أن تُقعد الناس عن مواصلة التحدي، وإنبات الفرح في عروق الحياة، وهزيمة اليأس، لأنّ الانتصار على العدو يكون بتعريته وفضح جرائم الإبادة التي يرتكبها، وبالتالي تجريده من إنسانيته.
 
إدارة المهرجان استجابت، بطريقة ذكية، لكلا التيارين، فخصصت فقرات كثيرة، وأعدت برامج وفعاليات للتضامن مع مأساة غزة، من خلال معارض فنية، وفرق ومغنين عرب اشتهروا بالغناء الوطني. كما سيشارك في المهرجان 140 شاعراً، بالإضافة إلى انعقاد "مهرجان المونودراما" بعروض مسرحية من: فلسطين، الكويت، الجزائر، عُمان، البحرين، سورية، مصر، ليبيا، العراق، تونس، والأردن، وكذلك عقد "سمبوزيوم الرسم والحروفية والخط العربي"، فضلاً عن باحثين يقدمون أوراق عمل في المؤتمر الفلسفي العربي الثالث عشر بالتعاون مع الجمعية الفلسفية الأردنية.
 
جائزة غالب هلسا للرواية
 
وفي البرنامج الثقافي للمهرجان، سيتم الإعلان عن الفائز بـ "جائزة غالب هلسا للرواية"، وهي جائزة مشتركة بين مهرجان جرش ورابطة الكتاب الأردنيين. كما سينعقد بالتعاون مع الرابطة "ملتقى تحولات السرد العربي في العصر الرقمي"، (دورة الروائي الرائد جمال ناجي) الذي يناقش قضايا السرد العربي في ظل التطورات الرقمية، وتداخل الأجناس السردية، والعلاقة بين السرد والدراما، وغيرها من الموضوعات بمشاركات من السعودية، الإمارات، مصر، السودان، الكويت، سورية، عُمان، البحرين، لبنان، العراق، والجزائر، والأردن.
 
مهرجان جرش الذي يلتئم في 23 من يوليو المقبل وحتى 2 أغسطس؛ تحت شعار "هنا الأردن.. ومجده مستمر"، أثبت منذ انطلاقته انحيازه للفن الأصيل، حيث وقف على المدرج الجنوبي في المدينة الأثرية التي شيدها الرومان قبل زهاء ألفي عام، أهم الفنانين العرب والعالميين، ما جعل هذا الحدث لقاء سنوياً للاحتفاء بالمخيلة، وإشاعة الأمل، وصناعة أفق للرجاء والتحدي.
 
وفي قائمة المشاركين في المهرجان المقبل، الذي يشهد أكثر 235 فعالية، أصالة، ناصيف زيتون، أحلام، ميادة الحناوي، نور مهنا، جوزيف عطية، ملحم زين، خالد عبد الرحمن، محمد حماقي، بالإضافة إلى الفنانين الأردنيين عمر العبداللات، نداء شرارة، ديانا كرزون، عيسى السقار، أسامة جبور، حسين السلمان، عزيز مرقة، وغيرهم.
 
استفتاء غير معلن
 
الذين يؤمّون بالآلاف فعاليات المهرجان من الأردن وخارجه يشاركون في استفتاء غير معلن على جدارة هذا الحدث ومصداقيته وكونه فضاءً رحباً للعائلة، ما يقوّض المزاعم التي يطلقها المعارضون الذين يتطلعون، فقط، إلى احتكار الحقيقة المطلقة المتصلة بصيانة الأخلاق، وحماية الوجدان، فيما هم في الواقع يصطادون في المياه العكرة، لتحقيق مآرب سياسية وشعبوية انتهازية تتغذى على المآسي من حولنا لإشاعة جو من الإحباط واليأس على اعتبار أنّ "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، في تأويل مغرض يتوخى ليّ أعناق المعنى وإخراجه من سياقه، حيث ينهض في المقابل: "روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإنّ القلوب إذا كلّت عميت".
 
المهرجان مستمر، ويستمر معه الفرح. وإذا أرادت إسرائيل للعالم العربي أن يبقى حزيناً، مكتئباً، متخلّفاً، لائذاً بالغيبيات، متقاعساً عن اللحاق بالركب الحضاري، فيتعين أن يتم مقاومتها بالإقبال على الحياة، وشحن الهمم، وإيقاظ الإبداعات، والاستثمار بالقوة الناعمة من أجل الترفيه والسياحة وتحويل الثقافة والفنون إلى قوى منتجة ترفد الاقتصاد الوطني بالصناعات الإبداعية، وصولاً إلى "الاقتصاد الإبداعي" أو "اقتصاد العقول" الذي قدّرت توقعات سابقة أن تصل سوقه إلى أكثر من تريليوني دولار. وهذه في مجملها رؤى وتصورات تستند إلى أرقام وبيانات، ويتعين أن تتوفر لها بيئة تنافسية منشدّة إلى الأمام تؤمن بالعلم والسعي إلى تحسين الحياة والارتقاء بجودتها. ومن نافل القول أن نذكّر أنّ نهضة الدول التي ابتليت بالدمار الذي حاذى الإفناء (كما جرى في اليابان) كانت من خلال تثوير العقول، ومناهضة المستحيل، والاعتصام بالتفكير النقدي، وعشق الأمل. وبفضل هذه الاستراتيجية أصبحت اليابان في زمن قياسي أكبر الدول الدائنة في العالم لأكثر منذ 31 عاماً، إذ وصلت صافي قيمة الأصول الخارجية لليابان (3.7 تريليون دولار) في نهاية 2024، قبل أن تتقدم عليها ألمانيا التي خاضت هي الأخرى معجزة البقاء والتحدي، بعد الحرب العالمية الثانية.
 
ليس بعيداً عن جرش وعن غزة
 
بدأت الحكاية بنفض غبار القنوط عن كاهل الوعي. وستتواصل بالتفكير الحر وإثبات الحضور، واستعادة الحيوية الوجودية في عالم لا يحترم الضعفاء، ويرفع قبعته وينحني لمن يرفع قفازات التحدي.
 
ليس بعيداً عن جرش وعن غزة، الشعب الممتلئ عزة وتصميماً ينتصر في النهاية. أفراح غزة المقبلة تبدأ برسم لوحة وغناء قصيدة والهتاف للحياة وتمجيد الأمل. للنصر وجود عديدة، أولها امتلاك الوعي واستقلال الإرادة وامتلاء الذات باليقين العلمي أنها قادرة. وإذ ذاك تتحول أحلام المحتلين إلى كوابيس ضارية