عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Sep-2020

معضلة التنوير الراهنة*جمال الطاهات

 الدستور

تتمثل معضلة التنوير بتناقض العلاقة بين الفرد والجماعة. تعزيز حرية العقل (كممارسة فردية)، في مواجهة سلطة (الكهنوت والدولة)، يضعف وحدة الجماعة ويقلل تماسكها، وإن كان ضروري لتطورها وازدهارها. والحفاظ على وحدة الجماعة، ضرورة لحماية الفرد، وحماية فرصه بالتمتع بالحرية، والحصول على عائدات مساهمته بالازدهار. فحرية الفرد ضرورة لتطور الجماعة، ولكنها تضعفها. وتماسك الجماعة ضرورة لحماية حرية الفرد، ولكنها تحد منها. 
 
طيف واسع من المساهمات جاءت لتقدم حلولاً لهذه المعضلة. بدات برسالة فرانسيس بيكون لدوق باكينعهام، عام 1603، ولم تتوقف. وقد تم حل التصدي لهذه المتحارجة عبر «الموضوعية المعرفية». حيث أصبحت المعرفة العلمية مرتبطة بموضوعيتها، وهذه بدورها مرتبطة بقدرة الإنسان المتوسط للوصول لذات النتائج إذا اتبع ذات الطريقة. وتطوير فكرة الموضوعية وتطبيقها على الممارسة السياسية، عبر القوانين، التي تساوي بين البشر بغض النظر عن خصائصهم العرضية. أي أن حلول متحارجة التنوير كانت تستند إلى موضوعيتين: معرفية علمية (ربطت قيمة المعرفة الفردية بأن تكون جماعية)، وسياسية مؤسسية، ضبطت ممارسة السلطة بحدود صيانة مصلحة الجماعة، وقبولها بها. 
 
التنوير كان هو العنوان لتهيئة الإنسان لعصور جديدة. ثورة الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، كانت ضرورة لبناء الدولة وحماية الإنسان من التضليل، الذي يعيق التحاقه بمجتمع الدولة، ويغربه عن حياته. تعريف التنوير، وصياغته بقواعد نظرية جديدة، تمكن من تطوير علاقة الفرد مع السلطة، كانت استجابة لعصر الثورة الصناعية، والحريات الاقتصادية. حيث تسارع حضور مفهوم التنوير، مع انحسار إدارة الدولة للنشاط الاقتصادي، وظهور الليبرالية الاقتصادية في القرن الثامن عشر. والاعتراف بأن السعي للمنفعة الخاصة، هو منفعة للجميع. مع الكشوفات العلمية لنظرية الشوش، والانهيار النظري للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، وانفتاح العالم لممكنات تقنية وتنظيمية لم تكن تقترب منها أكثر الخيالات جموحاً، برزت الحاجة لإعادة طرح مفهوم التنوير. 
 
لقد مكن التراكم الفلسفي المتاح، من اجتياز غموض الممكنات التقنية والعلمية النظرية، في ثمانينيات القرن الماضي، لاكتشاف مهمة التنوير الجديدة. ففي عام 1984، بعد مئتي عام على جواب الفيلسوف الألماني «إمانويل كانت» لسؤال (ما هو التنوير؟)، قام الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» بإعادة طرح السؤال، ليشير إلى محدودية ميراث عصر الحداثة. وكشفت مساهمته عن الحاجة «لجرأة» تحتمل اجتياز «محدوديات الإنسان»، ولا تتوقف عند حدود الحكمة. فأصبحت جرأة احتمال الحكمة ضرورة لامتطاء لخيال، وليس لتقييده. 
 
عصرنا نقل معضلة التنوير، من (إعادة بناء علاقة الفرد بالجماعة)، بتحدي الهكنوت والتصورات البدائية للسلطة السياسية، عبر تقديم تعريف «منهجي» للحقيقة الموضوعية، إلى مستوى جديد يتمثل في مواجهة انفلات معرفي، وتراجع فاعلية الادوات المنهجية لضبط المعرفة بشكل سابق على انتاجها، وتضليل جديد يستثمر نزعة التشكل الجماعي عبر الشبكات، والتداعي المستمر للمنظومات الجماعية المتصلة بالجغرافيا. فالمعضلة الآن متعلقة بتآكل مرجعية الجغرافيا، وتشكل هويات تعلو عليها، وتغادر المكان كإطار لحميمية الجماعة، وتحقق نبوءة الشنفرى: «لعَمرُك ما بالأرض ضيقٌ على أمرء».
 
فالمعضلة الجديدة للتنوير، لم تعد تنظيم العلاقة بين الفرد والجماعة، ولكن علاقتهما بالمكان، وإمكانية تشكل هوية الجماعة خارجه. فهناك ممكن إنساني جديد، بإعادة رسم تخوم التطور بتضاريس الوعي (خارج الجغرافيا). فالمجتمع يحتاج لتحليق أبنائه لتجنب العزلة. ولكن هذا التحليق يفكك بنية المجتمع. وأيضاً «تماسك المجتمع ببنية جديدة» مطلوبة لحماية الأفراد من التضليل والخداع والانجراف مع سيول الشبكات. فالمطلوب نظرية تنوير جديدة، تضمن مسيرة تشكل انساني آمنة، نحو كونية محمية من التضليل وصناعة الجهل، وتحمي الإنسان من التغريب عن حياته بمستويات جديدة من الخداع والتضليل.