عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Jan-2021

عاجلاً أم آجلاً كلنا سنواجه الموت.. هل سيساعدنا وجود حسٍّ بالمعنى؟

 الغد-وارين وارد* – (مجلة أيون) 6/5/2020

 
اعتاد صديقي جيسون أن يقول ساخراً: “على الرغم من كل أنواع التقدم الطبي التي حققناها، ظل معدل الوفيات ثابتًا -بمعدل وفاة واحدة لكل شخص”.
درسنا أنا وجيسون الطب معًا في الثمانينيات. ومع كل الآخرين في تخصصنا، أمضينا ست سنوات طويلة في حفظ كل ما يمكن أن يحدث خطأ في جسم الإنسان. وقد انخرطنا بجد في دراسة كتاب مدرسي اسمه “الأسس الباثولوجية للمرض”، والذي يصف بالتفصيل كل مرض يمكن أن يصيب الإنسان. ولا عجب أن يصبح طلاب الطب مصابين بفرط القلق من المرض، وحيث ينسبون أسبابًا شريرة إلى أي كتلة أو نتوء أو طفح جلدي يجدونها في شخوصهم.
ذكّرتني ملاحظة جيسون التي كان يداوم على تكرارها بلا كلل بأن الموت (والمرض) هما عنصران لا مفر منهما من الحياة. ومع ذلك، يبدو أحيانًا أننا طورنا إنكارًا وهميًا لهذه الحقيقة في الغرب. ونحن نريقُ المليارات من أجل إطالة العمر من خلال التدخلات الطبية والجراحية باهظة الثمن والتي تزيد كلفتها باطراد، ومعظمها في سنواتنا الأخيرة البالية. ومن منظور الصورة الكبيرة، يبدو هذا هدراً عبثياً لأموالنا الصحية الثمينة.
ولا تفهموني خطأ. إذا أصبتُ بالسرطان، أو مرض في القلب، أو بأي من الأمراض التي لا تعد ولا تحصى التي تهدد الحياة والتي تعلمتُ عنها في الطب، فسوف أريد كل العلاجات غير المجدية والمكلفة التي يمكنني الحصول عليها. إنني أقدّر حياتي. وفي الواقع، مثل معظم البشر، أقدر البقاء على قيد الحياة فوق كل شيء آخر. لكنني أميل أيضاً، مثل معظم الناس، إلى عدم تقدير حياتي حقًا ما لم أواجه احتمالًا وشيكًا بأخذها مني.
كان صديق قديم آخر لي، روس، يدرس الفلسفة بينما كنتُ أدرسُ للطب. وفي ذلك الوقت، كتب مقالًا بعنوان “الموتُ المعلِّم” والذي كان له تأثير عميق علي. وفيه جادل بأن أفضل شيء يمكننا فعلُه لتقدير الحياة هو أن نبقي على حتمية موتنا دائمًا نصب العين وفي مقدمة الذهن.
عندما أجرت ممرضة الرعاية التلطيفية الأسترالية، بروني وير، مقابلة مع عشرات الأشخاص في آخر 12 أسبوعًا من حياتهم، سألتهم عن أعظم مكامن ندمهم. وكانت الأشياء الأكثر شيوعًا، التي نُشرت في كتابها “أعلى مكان ندم المحتضَرين” (2011)، كالآتي:
– أتمنى لو أنني امتلكت الشجاعة لأعيش حياة أكون فيها صادقاً ومنسجماً مع نفسي، وليس الحياة التي توقعها مني الآخرون؛
– أتمنى لو أنني لم أعمل بكل ذلك الجهد؛
– أتمنى لو أنني امتلكت الشجاعة للتعبير عن مشاعري؛
– أتمنى لو أنني بقيت على تواصل مع أصدقائي؛ و
– أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بأن أكون أكثر سعادة.
كانت العلاقة بين الوعي بالموت وعَيش حياة مُرضية هي الشغل الشاغل للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي استلهم في عمله جان بول سارتر وغيره من المفكرين الوجوديين. وقد أعرب هايدغر عن أسفه لحقيقة أن الكثير من الناس أضاعوا حياتهم في الجري مع “القطيع” بدلاً من أن يكونوا صادقين مع أنفسهم. لكن هايدغر جاهد في الواقع للارتقاء إلى مستوى التماهي مع مُثله العليا. وفي العام 1933، انضم إلى الحزب النازي، على أمل أن يعزز مسيرته المهنية.
على الرغم من عيوبه كشخص، فإن أفكار هايدغر ستستمر في التأثير على مجموعة واسعة من الفلاسفة والفنانين وعلماء اللاهوت والمفكرين الآخرين. وقد اعتقد هايدغر بأن فكرة أرسطو عن “الوجود” -والتي سرَت مثل خيط ظلّ ينتظم التفكير الغربي لأكثر من 2000 عام، وكانت مفيدة في تطوير التفكير العلمي- كانت معيبة على مستوى أساسي للغاية. ففي حين نظر أرسطو إلى كلِّ الوجود، بما في ذلك البشر، كأشياء يمكننا تصنيفها وتحليلها لزيادة فهمنا للعالم، جادل هايدغر في كتابه “الوجود والزمان” (1927)، بأنه، قبل أن نبدأ في تصنيف الوجود، يجب أن نطرح السؤال أولاً: “من هو، أو ما هو، الذي يجري كل هذا الاستنطاق؟”.
أشار هايدغر إلى أننا، نحن الذين نطرح الأسئلة حول الوجود، مختلفون نوعياً عن بقية الوجود: عن الصخور، والمحيطات، والأشجار، والطيور والحشرات التي نسأل عنها. وقد ابتكر كلمة خاصة لهذا “الكائن الذي يسأل، وينظر، ويهتم، فأطلق عليه Dasein، الكلمة التي تُترجم بشكل فضفاض إلى “التواجُد هناك”. وقد صاغ هذا المصطلح لأنه يعتقد أننا أصبحنا محصنين ضد كلمات مثل “شخص” و”إنسان” و”كائن بشري”، وفاقدين حسَّنا بالتساؤل حول وعينا الخاص.
تظل فلسفة هايدغر جذابة للكثيرين اليوم، الذين يرون كيف يكافح العلم لشرح تجربة كون المرء كائناً أخلاقيًا، مهتمًا، ومدركًا لحقيقة أن حياته الثمينة والغامضة والجميلة سوف تصل، يومًا ما، إلى نهاية. ووفقًا لهايدغر، فإن هذا الإدراك لموتنا الحتمي يجعلنا، على عكس الصخور والأشجار، نتوق إلى جعل حياتنا جديرة؛ إلى إعطائها معنى، وغاية، وقيمة.
في حين أن العلوم الطبية الغربية، القائمة على التفكير الأرسطي، ترى الجسم البشري كشيء مادي يمكن فهمه من خلال فحصه وتقسيمه إلى الأجزاء المكونة له مثل أي قطعة أخرى من المادة، تضع أنطولوجيا هايدغر التجربة الإنسانية في مركز فهمنا للعالم.
قبل عشر سنوات، تم تشخيصي بسرطان الجلد. وكطبيب، عرفت كم يمكن أن يكون هذا السرطان عدوانيًا وقاتلًا بسرعة. ولحسن حظي، يبدو أن الجراحة حققت علاجًا (إلمسوا الخشب). لكنني كنت محظوظًا أيضًا بمعنى آخر. لقد أدركت، بطريقة لم أكن أشعر بها من قبل، بأنني سأموت في نهاية المطاف -إن لم يكن من سرطان الجلد، فمن شيء آخر. وقد أصبحتُ أكثر سعادة منذ ذلك الحين. بالنسبة لي، هذا الإدراك، هذا القبول، هذا الوعي بحقيقة أنني سأموت، مهم لعيشي بطريقة حسنة -بأهمية كل التطورات الطبية نفسها على الأقل- لأنه يذكرني بأن أعيش حياتي بالكامل كل يوم. إنني لا أريد أن أختبر الندم الذي سمعَت عنه الممرضة الأسترالية، وير، أكثر من أي شيء آخر: عدم عيش “حياة أكون فيها منسجماً مع نفسي”.
تقدِّر معظم التقاليد الفلسفية الشرقية أهمية الوعي بالموت لحياة تُعاش جيداً. ويشكل “كتاب الموتى التبتي”، على سبيل المثال، نصاً مركزياً للثقافة التبتية. ويقضي التبتيون الكثير من الوقت في العيش مع الموت، إذا لم يكن هذا تناقضًا لفظيًا.
وقد أدرك أعظم فيلسوف في الشرق، سيدهارتا غوتاما، المعروف أيضًا باسم بوذا، أهمية إبقاء النهاية نصب العين. ورأى إلى الرغبة على أنها سبب كل المعاناة، ونصحنا بعدم التعلق أكثر من اللازم بالملذات الدنيوية، وإنما التركيز، بدلاً من ذلك، على أشياء أكثر أهمية مثل محبة الآخرين، وتنمية الرصانة ورباطة الجأش، والبقاء في الحاضر.
كان آخر شيء قاله بوذا لأتباعه هو: “التحلُّل متأصل في كل العناصر المكونة! اعمل على خلاصك باجتهاد!”، وكطبيب، أتذكر كل يوم هشاشة جسم الإنسان، وكَم يتربص الموت قريباً وراء الزاوية فقط. وبصفتي طبيبًا نفسيًا ومعالجًا نفسيًا، أتذكر أيضًا كيف يمكن أن تكون الحياة فارغة إذا لم يكن لدينا حس بالمعنى أو الغاية. وفي ما ينطوي على مفارقة، يستطيع وعينا بحتمية فنائنا، بمحدوديتنا الثمينة، أن يدفعنا إلى البحث عن -وإذا لزم الأمر، خلق- المعنى الذي نحتاج إليه بشدة.
 
*أستاذ مساعد في الطب النفسي في جامعة كوينزلاند. وهو مؤلف الكتاب المقبل، “عشاق الفلسفة” (2021).
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Sooner or later we all face death. Will a sense of meaning help us?